انتصف فصل الصيف، وقد نمت عيدان الذرة حتى أصبحت أطول من "تيموري" نفسه. نظر بفخر إلى الأكواز الغضّة التي تبشّر بمحصول جيد يجنيه خلال أسابيع قليلة حين يتحول لون الحقل الصغير من الأخضر إلى الأصفر.
يُعتبر نهر إنغوري حاجزاً طبيعياً بين جورجيا والأراضي الأبخازية، ولذلك فإن الزراعة في منطقة النهر تنطوي على مصاعب كثيرة ومخاطر معتبرة ترتبط بالنزاع على طرفي النهر منذ أكثر من ربع قرن.
نهر إنغوري لا يبخس الفلاحين تعبهم ويكافئهم على غير المتوقع. فمع فيضانه الربيعي ينحدر من أعالي القوقاز ليصب في البحر الأسود، وأثناء ترنحه وهو يجهد ليلاقي المياه المالحة، ينفض النهر عن كاهله عبء الطمي والرمال والحصى على شكل جزر صغيرة موقتة لكنها وافرة الخصوبة.
لقد ترك تيموري، شأنه شأن الكثير من جيرانه، الأراضي الرطبة على ضفاف النهر، وانتقى جزيرة في وسط النهر لا تزيد مساحتها عن بضع مئات من الأمتار المربعة، وشرع بحراثتها يدوياً، ثم زرعها بحبوب الذرة، وتعهد شتولها بالرعاية والاهتمام. وها قد مرّت الأيام واقترب موسم الحصاد الذي سيكفيه مؤونة الشتاء ويوفر له بعض المال للحماية من عوادي الزمن. أما النهر فسيسترد الجزر التي منحها للفلاحين مع ارتفاع منسوبه بفضل غزارة الأمطار.
في هذه الأثناء، وفي مكان آخر من العالم، اتخذ "نزار" مكاناً له على ناصية أحد الشوارع العريضة بالقرب من وسط المدينة، وجلس بجانب حَلّة كبيرة امتلأت بأكواز الذرة، ووضع أمامه قِدراً أصغر يعلوه طبق نحاسي اصطفت عليه بعض الأكواز. كان المشهد عبارة عن لوحة فنية جميلة تلتمع فيها حبات الذرة الذهبية فيما ينعكس ضوء المصباح الغازي على بخار الماء المتصاعد من القدور المتلألئة في الظلام. واكتمل عرض الضوء هذا مع صوت مذياع صغير أحضره نزار معه وأداره على إحدى المحطات المحلية التي اعتادت أن تبث أغاني الطرب القديمة فيما تستضيف بعض المسؤولين. كلمة "مسؤول" بالنسبة إلى نزار تعني شيئاً واحداً: حقيبة جلدية صغيرة فيها دفتر ضبوط للمخالفات.
عندما كان أحد المسؤولين يتحدث عن فرص العمل الكثيرة التي وفرتها الحكومة للشباب، تذكر نزار بأسى ما حصل معه قبل أسابيع قليلة. كان فصل الشتاء الماضي غزير الأمطار بحيث فاضت البوادي والمسيلات وامتلأت بالبرك والبحيرات الصغيرة. وقد سعى نزار لاستغلال هبة السماء برمي بذور البطيخ الأحمر على أطراف مساكب الماء ضمن أرض نائية مقفرة معللاً النفس بمحصول جيد من دون بذل جهد معتبر.
كل شيء كان يسير على ما يرام حتى ظهر أمامه أحد "المسؤولين". وهكذا توجب على نزار دفع غرامات كبيرة نتيجة ارتكابه عدداً من المخالفات، تبدأ بالتعدي على أملاك الدولة ولا تنتهي بإرباك الخطة الزراعية السنوية والسعي لإغراق السوق المحلية بالبطيخ.
استنفدت هذه الغرامات جميع مدخرات نزار، ولم يجد بداً من الاقتراض كي يعوّض ما خسره ويؤمن قوته وقوت عياله. وقد نجح في تحقيق ذلك إلى حد بعيد بفضل الابتكارات التي أضافها إلى مورد رزقه المتواضع، فلم يكتفِ بتقديم أكواز الذرة المملحة، بل أخذ يحضّر حبوب الذرة المحلاة وأكواز الذرة الحامضة والحارة والتي تكسوها الجبنة.
كان نزار يشعر بالسعادة الغامرة وهو يرى الأطفال والشباب يحيطون به من كل جانب ويتدافعون للحصول على الذرة الشهية. وفجأة توقف قلبه عن الخفقان، أو كاد، وهو يرى تلك الحقيبة اللعينة في يد أحدهم. في اليوم التالي، كان على نزار مراجعة أمانة المدينة لدفع غرامة إشغال الأماكن العامة وتسديد ضرائب الدخل والرفاهية.
|