ترك الدلفين ورفيقته المياه العميقة، بيئتهما الطبيعية، واقتربا من الشاطئ حيث المياه قليلة الغور. ربما كانا يطاردان سرباً صغيراً من الأسماك، ليلتقطا منه وجبة سريعة. والمؤكد أنهما غفــلا عما يحيط بهما، فتعثرا في شبكة لصيد الأسماك. ويبدو أن الدلفينة كانت عصبية، إذ أخذت تضـرب الشـباك بعنف حتى نال منها الإجهاد. فماتت أمام عيني رفيقها الذي أصابه حزن شديد، فاستسلم لقدره، ينتظـر أن يلحـق برفيقة حياته.
ولحســن حظ هذا الدلفين المسكين، عاد الصياد الأخرس صاحب الشبكة في الوقت المناسب، وتقدم بقاربه ليرفع شبكته ويجمع صيده. ففوجـئ بالشبكة ممزقة، وقد التفّت خيوطهــــا حول الدلفينين. لم يكن يهمه بالدرجة الأولى إلاَّ ســلامة الشــبكة، فهي كل رأســماله، ثم إنتـبه إلى وجود الدلفينين.
أخرج الدلفينة المتوفاة، ثم حرر الدلفين المصــاب، وعكــف في تلقائية عجيبة على مداواة جراحه، وأطلقـه في المــاء. ثم هـداه تفكيـره إلى أن يدفن الدلفينة في رمال الشاطئ. وعـاد بعد ذلك إلى كوخـه المنعـزل، راضــياً عمَّــا فعلـه من أجل الدلفينين المسكينين.
خرج الصياد من كوخـه بعد أن استراح قليلاً، فلاحــظ أن الدلفيـن الجـريــح يســبح غير بعيـد عن الشــاطئ. فقال في نفسه: لعله لا يزال مجهــداً بســبب جراحه ولا يقوى على الإبحــار بعيــداً.
خابت جهود الصياد في رتـق شــبكته، وبات ليلته حزينــاً. وفي الصــباح غـادر كوخه وفي نيته أن يتوجه إلى قرية ســـياحية ســاحلية غير بعيدة يطلــب عمــلاً، فلا صياد بلا شبكة. وفوجــئ بالدلفين الجريـح موجـوداً في البقعـة ذاتها، كأنه لـم يغــادرها منــذ الأمـــس، وقد اســــتعاد بعــض حيويتـه. تعجــب وسأل نفسه: ماذا يجعله متمســكاً بالبقــاء قــرب الشـــاطئ، هــو الذي لا يرضــى بالعيش إلاَّ في الميــاه العميقة؟
بلغ الصياد القرية السياحية. اســتوقفه الحارس، وسأله بصــوت عال: ماذا جــاء بـك إلينــا مبــكراً هــكذا أيهــا الأخـــرس؟ وأيــن أســــماكك؟
تعذَّرَ التفاهمُ بينهما، فانســحب الصياد راجعــاً إلى كوخـه. فوجــئ بالدلفين في اســـتقباله وهو يتقافـز في المــاء. فرمى إليه كيــس طعــام كان يحمله، ولســـان حالـه يقــول: دعني في حالــي، كفاني ما أصــابنـــي منـــك.
لكن الدلفين كانت له وجهة نظر أخرى. فهـم أن الصيـاد يلاعبــه، ويقـذف إليه بطعــام، فأســرع يلتقــط الكيـس الورقي على قمة رأســه، ويرفعه في الهواء ليعــود فيلتقطـه. ولمَّـا تمـزق الكيـس ابتلع ما فيه من طعـام. لم يســتحســن الصياد ذلك، فأخذ يحـرِّك يديه بقصــد إبعــاده. لكن الدلفين كان متعلقاً بالصــياد الذي أنقـذ حياته وقدم له الطعــام.
ازداد ضـجــر الصيــاد، فأخــذ يطــارد الدلفيــن، ضــارباً الماء بيديـه، صائحـاً فيه: آ... أو... آ... أو.
كانت تلك هي الأصــوات التي يســتطيع أن يطلقهــا تعبيراً عن غضــبه، بينما تهيَّأ للدلفين أن صـاحبــه قد أعطــاه اســـماً، هــو: (آ... أو).
فجأة، رأى الصياد جمعـــاً من الســـائحيـن يقفــون بالقــرب من الكــوخ. اتجــه إليهــم. كانــوا يصيحــون: آ... أو! فاســــتوعب الموقــف بســرعة. لم يكن يســــمعهم بالطبع، ولكنــه قــرأ ما يصيحــون به في حركة شـــفاههــم، فــرد عليهــم: آ... أو!
هذه روايتي لقصة حقيقية متداولة في جنوب الغردقة، حيث هجر الأخرس الصيد، وأصبح مصدر رزقه الوفير استعراضاته مع "آ... أو".