ألقيتُ منذ نحو عشر سنوات محاضرة بعنوان "وصف مصر بيئياً"، في أحد المنتديات المهنية في الإسكندرية. وما إن انتهت الندوة حتى وجدتُ "رجل أعمال"، حسب تعريفه هو بنفسه، يقترب مني محيياً وراجياً أن ننتقل إلى مطعم المنتدى. فهو، كما قال، يدعوني إلى "عشاء عمل" من أجل البيئة.
قبلتُ مندهشاً شاكراً. وفاجأني في حديثنا الودي أثناء تناول الطعام بإعجابه بالفكرة التي طرحـتُها في محاضرتي عن أهمية وجود مدارس ذات طابع بيئي. وقال: "لقد قلتَ إن الأمل في هذا التوجه معقودٌ على رجال الأعمال المستنيرين الشجعان الذين يؤمنون بأهمية التعليم البيئي للمجتمع، لإبعاد خطر التدهور عن أنظمة بيئية تقوم عليها حياة الناس". واستطرد: "وأنا أمد يدي لك، أعاونك في تجسيد هذه الفكرة الجديدة المفيدة".
ورحنا نناقش بصورة مبدئية طبيعة التعاون، ودور كل منّا في تنفيذ فكرة المدرسة البيئية. وتوخى صاحبنا الوضوح التام وهو يؤكد على أننا شريكان، وقد نحتاج إلى إدخال شريك ثالث، أو أكثر من شريك، لدعم التمويل. فإنشاء مدرسة ووضع أسس تسيير العمل فيها أمران مكلفان. وحدد لي دوري بإدارة الفكرة فنياً، ودوره بالأعمال التنفيذية والإدارة الفعلية للمشروع.
وكانت المفاجأة الأكبر حين أكد لي أنه يمتلك قطعة أرض في منطقة "العجمي" غرب الإسكندرية ورثها عن أبيه. فإن قبلتُ تصوره للمشروع، فإنه سيأمرُ صباح الغد بإحاطتها بسور وعليه إعلان "مشروع إقامة مدرسة العجمي البيئية".
وقد فعل. فبعد أن اتضحت الأمور نسبياً، زرتُ الموقع بصحبته، فوجدتُ السور والإعلان، فعلاً. وكان ذلك دليلاً إضافياً على مدى جديته وحماسته. فلم أملك إلا أن أُسقط تحفظاتي، وانطلقتُ أسجلُ أفكاري، وأُحيلُ تصوراتي العامة إلى محاور عامة. ولم يلبث هو، بعد أسابيع قليلة، أن فاجأني برسم هندسي تفصيلي لإنشاءات المدرسة، عليه خاتم مكتب استشاري هندسي مشهور، ويحمل عنوان "مدرسة العجمي البيئية الخاصة". وكان المخطط الهندسي مثالياً، إذ اشتمل على حديقة نباتات، ومختبرات مختلفة، وقاعات عرض، إضافةً إلى حجرات التدريس التقليدية.
وكنا قد اتفقنا على أن نبدأ بالمرحلة الابتدائية. فانقطعتُ وقتاً طويلاً وضعتُ فيه برنامجاً متكاملاً يناسب أطفالاً في بداية هذه المرحلة، وفي ذهني أنهم لن يكونوا إلا من أبناء المنطقة المحيطة بموقع المشروع. ففوجئتُ به يختلف معي، موضحاً أن تكاليف الانتساب إلى المدرسة ستتجاوز قدرات هؤلاء الفقراء، وأنه يضع في ذهنه اجتذاب أبناء الطبقات الموسرة في وسط المدينة.
وتصاعدت وتيرة الأحداث، فطلب مني البرنامج التدريسي ليعتمده مع طلب إنشاء المدرسة من الإدارات التعليمية المسؤولة. وفوجئتُ به يأتيني بموافقة جهة الاختصاص على المشروع. ثم عقد اجتماعاً قدَّم لي فيه شريكين تمويليين، لا صلة لهما بالثقافة عامة، ناهيك عن ثقافة البيئة. وحضر الاجتماع مندوبون عن بعض الشركات العاملة في المنطقة (بتروكيماويات، إسمنت، حديد وصلب، أسمدة) تقف جميعها في صف بعيد عن الشأن البيئي. وقد علمتُ في ما بعد أنه طلب مشاركتها المالية في التأسيس للمدرسة، كنوع من الدعاية لرعايتها للبيئة.
وبدأت أعمال البناء والتشييد بالفعل. غير أن شريكي رجل الأعمال ذاب في الهواء. وفشلتُ، حتى الآن، في الاتصال به. ولما زرتُ موقع المدرسة، فوجئتُ بالسور وقد اختفى. ولما سألتُ بعض المارة عما حدث، قال أحدهم: محتال وضع يده على الأرض من دون وجه حق!
|