الغرونيون (grunion) سمكة محدودة الانتشار تعيش في المحيط الهادئ على شواطئ كاليفورنيا، وتشتهر لدى علماء الحياة البحرية بسلوكيات التزاوج والتناسل الغريبة.
يضيق المحيط بهذه السمكة الصغيرة، فتهجره ليلاً لتضع بيضها على اليابسة. ومعروف عن الغرونيون، التي لا يزيد طولها على 20 سنتميتراً، قدرتها على ضبط توقيت وصولها إلى رمال الشاطئ مع موجة المد، ثم تسبح بعكس اتجاه عودة مياه الموجة، التي تنسحب مخلفة وراءها الشريط الرملي وقد تناثرت فوقه الأسماك ذات اللون الفضي المائل إلى الزرقة. ولا تضيّع الأسماك وقتاً، فتبدأ فوراً في أداء مهمتها.
يدب النشاط في الإناث، فتبدأ كل واحدة في اختراق رمال الشاطئ بحركات تقلصية لجسمها، حتى يصير معظمه، من الذيل حتى الزعنفتين الصدريتين، مدفوناً بالرمال. وتستغرق هذه العملية مدة لا تزيد على عشر ثوانٍ. ويبدو أن هذه "الرقصة" إعلان عن أن السمكة تضع البيض. وتضع كل أنثى عدداً يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف من الحبيبات الوردية المستديرة، هي البيض. وفي الوقت ذاته، يقوم الذكور – ثلاثة أو أربعة لكل أنثى – بإفراز سائل التلقيح، الذي يتسرّب عبر الرمل ويسقط فوق البيض فيخصبه.
هكذا، تنتهي الملحمة، فتعود الأنثى إلى حركاتها التقلصية لتخلّص الجزء المدفون من جسمها. وما إن تتحرر على سطح الرمال حتى تأخذ في التلوي، متحركة مع الذكور نحو الماء. وتأتي موجة، فتحمل الأسماك إلى حيث تعيش حياتها الاعتيادية في المحيط.
لكنها لا تذهب بعيداً، بل تبقى في المنطقة حيث وضعت بيضها، إلى أن يأتي موعد حركة المد المناسبة من جديد، فتدفعها تلك الإشارات الداخلية إلى الموقع ذاته، لتبيض مرة أخرى. وقد أجريت تجربة تم فيها تثبيت علامات معينة على أجسام عدد من إناث أسماك الغرونيون، وثبت أن الأسماك ذاتها تأتي إلى الموقع نفسه مرات عديدة، وصلت إلى ثماني مرات في بعض الحالات، خلال فترة النضج التي تمتد من بعد السنة الأولى من العمر حتى سنتين أو ثلاث سنوات، وهو أقصى عمر لسمكة الغرونيون.
ولأسماك الغرونيون شعبية كبيرة في مواطنها، إذ يقبل عليها الكبار والصغار، لطعمها اللذيذ ولسهولة الحصول عليها. وثمة قانون ينظم عمليات صيد الغرونيون الاحترافية، ويبيح للأطفال صيد هذه الأسماك من دون شباك أو أي وسيلة صيد أخرى، فقط يمسكونها بأيديهم، وذلك لعدم حرمان الصغار من متعة المشاركة في طقوس مطاردة هذه الأسماك العجيبة ليلاً في الشواطئ المغمورة بمياه المد.
ولا يزال العلماء في حيرة من أمر هذه السمكة، التي تستطيع معرفة مواعيد المد والجزر بدقة تعجز عنها أحياناً أحدث الأجهزة المستخدمة في هذا المجال. ويعتقد بعضهم أن للسمكة قدرة خفية على قياس قوى الجاذبية التي تسبب حركة المد والجزر. ويظن آخرون أنها ربما تتمكن من تحديد مواعيد حركة موجة المد المناسبة لها عن طريق إحساسها بالتغيرات التي تطرأ على ضغط المياه في بداية حركة المد. أما هواة صيد الغرونيون، فإنهم يقولون ببساطة إن لهذه السمكة ساعتها الداخلية الخاصة التي تحدد لها أوقات ارتحالها إلى اليابسة، لتهب الحياة لأجيال تالية، ولتنثر البهجة بين الصيادين وهم ينتظرونها في ليالي المد والجزر.
|