هذه حكايةٌ عن ثلاث أشجارٍ، كانت قد نمتْ منعزلةً فوق تلٍ صغير يرتفع عند حافة غابة.
لم تكن تلك الأشجار تكفُّ عن الحديث في ما بينها، عن آمالٍ عريضةٍ تتطلَّعُ إليها، وأحلامٍ كبيرةٍ تأملُ أن تتحقَّــق لها. وقد سُـــمعت واحدةٌ منها تقول: "يوماً ما، بعد عمر طويل، سأصير صندوقاً يحفظُ كَـنْــــزاً. فخشبي ثمينٌ، وأنا جديرةٌ بأن أمتلئ بالذهب والفضة والأحجار الكريمة".
ثم إنها كانت تتخيل شكلَ صندوقِ الكنز الذي سيُصــنع من خشبها، فتراه محلىً بالزخارفِ الأخَّــاذةِ، المنقوشةِ على غطائه وجدرانه، ولـه مقبضان من العاج.
أما الشجرةُ الثانية، فكان منتهى أملِها وأغلى أحلامها أن يتحول خشبُهـــــا، بعد عمرٍ مديد، إلى باخرة هائلة، يُبحــــرُ على ظهرها ملوك وملكات، تجوب بهم كل بحار العالم. وكانت تقول: "سيشعر الجميعُ بالأمان، لقوةِ بدنِ الباخرة المصنوع من خشبي المشهود له بالصـلابة".
وكانت الشجرةُ الثالثة تصفُ آمالها وأحلامها، فتقول: "أتمنى أن يمتد بي العمــرُ، وأن أنمـــو منطلقةً في الفضاء، لأصبح أعلى أشجار الغابة، وأكثرها استقامة في القوام، أســـرُّ الناظرين. ويمرُّ بـي الناس، فيرفعون رؤوسهم، لتتابــــع أعينهـــــم أفرعي الكثيرة العاليــــة، الغنيــــة بالأوراق الخضــــــــراء، التي تخـلِّــصُ هواءهـــــم من غازات الكربون الضارة، وتُغنيه بالأوكسيجين، غاز الحياة. وإذا ابتغى أحـــدُهم ظــلاً يلجأُ إليه في ظهيرة يومٍ قائـظ، وجده تحتي. وإذا مـرَّ بــي مســـافــرٌ نفـــــدَ زادُه، تمــــدُّه ثمــــــاري بما يقيم أَوْدَه ويعينه على مواصلة رحلته".
وذات صباحٍ، استيقظ الناسُ فلم يجدوا فوق التـــــلِّ غير شجرتين. لقد تسلل نجَّــارٌ بائــسٌ ليلاً، وقطع الشجرةَ الأولى. كان بحاجةٍ إلى خشبها ليصنع بضاعته، التي لا يعرف غيرها: الأحواض الخشبية التي يُقــــدَّمُ فيها الطعامُ للبهــــــائم في الحظـــائــر.
ثم لم تلبث الشجرةُ الثانية أن اختفت أيضاً. اجتثَّهــا صانعُ قوارب سيئ السمعة، لا يحســـن صنعته، وحوّلها إلى قــــاربِ صـــيدٍ قميء، لم يمكُــــــثْ في الماء إلا أياماً قليلة حتى أغرقته أوَّلُ عاصفةٍ هبَّــت على المنطقة.
ولمَّا رأى أحدُ التجَّــــــــــار الجشعــين ما جرى للشجرتين، طمع في الثالثة. لم تر عيناه مظاهـــرَ الحزنِ البادية عليها لفقدها أختيها. كان كل همه منصبَّــاً على خشبها، ليضيفه إلى تجارته. فاكـتــرى عاملاً ذبـــحَ لــه آخــرَ الأشجار الثلاث، وقطَّــع أوصالَهــا إلى كتــلٍ صغيرةٍ، نقلها إلى متجره وعرضها للبيع. واشتراها الناسُ، وأحرقوها فـــي مدافئهــــم ومطابخ بيوتهم، ليتصاعد منها دخــــــانٌ أسود يجعــــلُ الهـــــواءَ خانقـــاً.
|