بمناسبة "يوم السعادة" الذي يحتفل به العالم في 20 آذار (مارس) كل عام، صدر قبل أيام "تقرير السعادة العالمي" عن شبكة حلول التنمية المستدامة (SDSN) وهي شبكة عالمية تحشد الجهود من أجل الترويج للحلول العملية ذات الصلة بالتنمية المستدامة.
"ترتيب السعادة" الذي جاء به التقرير وضع دول شمال أوروبا في المقدمة، فجاءت الدنمارك أولاً، تلتها سويسرا ثم أيسلندا فالنروج وفنلندا. الولايات المتحدة جاءت في المرتبة الثالثة عشرة. وحلت الإمارات في صدارة الدول العربية في المرتبة الثامنة والعشرين، ثم السعودية فقطر والجزائر والكويت والبحرين. وفي مراتب متوسطة حلت ليبيا ثم الصومال فالأردن والمغرب ولبنان وتونس. وفي مراتب متأخرة جاءت فلسطين ثم العراق فمصر وموريتانيا والسودان وجزر القمر واليمن. أما سورية فجاءت في المرتبة 156 قبل بوروندي التي احتلت المرتبة الأخيرة.
وأوردت وسائل الإعلام أن التقييم تم بالاستناد إلى المؤشرات الستة الآتية: الناتج المحلي الإجمالي، الدعم الاجتماعي، متوسط العمر، الحرية في تبني خيارات الحياة، الكَرَم، وتقبل الفساد. ولكن كيف تم قياس قيم الحرية والكَرَم مثلاً؟
للأمانة، التقييم من الأساس لم يقم على مؤشرات رقمية قابلة للقياس، بل هو عبارة عن استطلاع رأي أجرته مؤسسة "غالوب"، ثم تم وضع هذه المؤشرات، ومعظمها نتائج استطلاعات رأي أيضاً، كوجهة نظر لتعليل نتائج الاستطلاع! في العديد من الحالات، لم تتطابق حصيلة المؤشرات الستة مع نتائج استطلاع السعادة. ولذلك "ابتكر" معدو التقرير مؤشراً افتراضياً سابعاً هو مؤشر البلد البائس أو "الجحيم الأرضي" (Dystopia) وعلامته 2.33 تضاف كعلامة مرجعية لجميع الدول. أما الفارق المتبقي بين هذه المؤشرات ونتائج الاستطلاع فهو ناتج عن "أسباب مختلفة" لا تتوافر معطيات لتقييمها حالياً، مثل المساواة والبطالة وأشياء أخرى لا نعرفها، هكذا جاء في التقرير!
استطلاع السعادة الذي قام عليه التقرير تم بطريقة "سلّم كانتريل". ولتوضيح هذه الطريقة المعقدة، سنتخيل أن فريقاً قام بمقابلة أحد المواطنين المصريين بعد قبض مرتبه الشهري، فبادره بالسؤال: "إنت مبسوط يا عم؟" فأجاب: "آه، مبسوط قوي". ثم سأله: "طب أدّ إيه إنت مبسوط على سلم من واحد إلى عشرة؟" ولنفترض أن إجابته كانت: "أد كده هو" مع قيامه بفرد ذراعيه كما يفرد الصقر جناحيه. عندها ستكون النتيجة حسب سلم كانتريل: "سجّل يا جيمس، العينة دي سعيدة بمقدار أربعة فاصلة سبعة من عشرة".
يوجد تقرير آخر صدر مؤخراً عن مؤسسة "غالوب" بعنوان "تقرير المشاعر العالمي"، قائم أيضاً على استطلاع الرأي. وقد جاءت نتيجة الاستطلاع أن شعوب أميركا اللاتينية، وليس شعوب شمال أوروبا، هي أسعد شعوب العالم. أما شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والعرب ضمناً، فهي الأكثر تعاسة لتفوقها في المشاعر السلبية وقلة المشاعر الإيجابية.
سبب التباين بين "تقرير السعادة" و"تقرير المشاعر" ورد في مطلع التقرير الأخير الذي وصف تقرير السعادة بأنه استطلاع لحالة السعادة التي ترتبط بوفرة المال والصحة وغيرهما. أما تقرير المشاعر فهو استطلاع لمدى العيش بسعادة، الذي يُعبر عنه بالفرح الغامر والضحك وما شابههما من مشاعر إيجابية.
بفلسفة أقل، تقرير السعادة يتطرق للمقومات، أما تقرير المشاعر فيتناول النتائج. في الشرق الأقصى، أنت سعيد لأنك تملك خيار الانتحار كمداً ويأساً (مقومات)، ولكنك حزين لأنك لا تستطيع تكرار الانتحار بنجاح أكثر من مرة واحدة (نتائج). في معظم الدول النامية، أنت سعيد لأنك تملك حرية النزول إلى الساحات (مقومات)، ولكنك حزين لأنك لا تستطيع المطالبة إلا بإسقاط أوباما (نتائج). يا للدقة!
السعادة هي مجموعة مشاعر، والمشاعر لا تخضع لتقييم ولا تقيدها مقومات. السعادة لا يمكن قياسها والتعبير عنها بالأرقام. استطلاعات الرأي في مثل هذه المسائل، كما تقر مؤسسة "غالوب" نفسها، هي موجة متغيرة لا يمكن الركون إلى نتائجها. وبالتالي فإن تقرير السعادة عبارة عن وجهة نظر مدعمة باستطلاعات غير جديرة بالثقة، وهو لا يرتقي إلى مستوى التقرير العلمي الذي يصح الاستشهاد به، لأن العلم كما هو معروف مرجعه القياس والاختبار والتكرار.
|