منذ أقدم العصور، احتلت الأشجار مكانة معتبرة في معتقدات الشعوب وثقافاتها. ففي تراث مصر القديمة مثلاً ارتبط "حورس" بشجرة الأكاسيا، أما "أوزوريس" فقد التجأ إلى شجرة الصفصاف بعد مقتله. وتقول إحدى الأساطير المصرية إن في السماء شجرتي جميّز بلون الفيروز تقفان على البوابة الشرقية، حيث تشرق شمس "رع" من خلالهما كل يوم.
لقد اكتسبت الأشجار في مصر، وبشكل خاص شجرة الجميز، رمزية كبيرة مع مرور الزمن بتأثير الهكسوس القادمين على الأرجح من بلاد كنعان، والذين تبادلوا مع المصريين القدماء معتقداتهم عن الخلق والخصوبة المرتبطة بأساطير "بعل". وهكذا أصبحت شجرة الجميز شجرة مقدسة ترمز إلى العطاء وتتجسد بشكل مباشر في عدد من "الإلهات" الإناث، ولا سيما "حتحور" التي منحت لقب "سيدة الجميزة".
الجميز، واسمها العلمي Ficus sycomorus، شجرة مثمرة تتحمل الجفاف ولا تحتاج إلى عناية خاصة كي تكبر. ولذلك راجت زراعتها على أطراف التجمعات السكانية حيث تكون المقابر عادة. وهذا ما عزز معتقدات قدامى المصريين بأن أرواح الموتى، الآتية من المدافن المجاورة على شكل طيور، تجد في ظل الجميز الوارف حاجتها من الطعام والشراب الذي لا تبخل به الإلهة الخيّرة "حتحور".
انتشرت زراعة شجر الجميز بشكل كبير في مصر القديمة، حتى أن المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد لم يكتفِ بوصف تلك البلاد على أنها «هبة النيل» بل شبهها بـ «غابة الجميز» لكثرة أشجار الجميز فيها.
ظلت شجرة الجميز مقدّسة لقرون طويلة، وما زال هناك من يتبارك بها حتى الآن في أكثر من منطقة عربية. وثمة شجرة جميز تعرف بشجرة "العذراء مريم" في المطرية، أحد أحياء القاهرة، وهي شجرة عتيقة يُظن أن عمرها يقارب 3000 عام. وهناك صورة فوتوغرافية لها التقطها المصور الألماني ويليام هامرشميدت قرابة العام 1880.
وفي فلسطين شجرة جميز معروفة باسم "شجرة زكا" تنتصب في وسط مدينة أريحا، ويقال إن عمرها يزيد على 2000 عام، حيث اقترن اسمها باسم "زكا" رئيس العشارين (أي جامعي الضرائب) الذي وردت قصته في الإنجيل.
أما أشهر شجرة جميز فلعلها تلك التي كانت على أطراف مدينة بيروت قبل أكثر من مئة عام، ثم توسعت المدينة وأتت عليها ولم تُبقِ من ذكرها سوى الاسم الذي حملته المنطقة المعروفة بحي "الجميزة". وهناك بطاقة بريدية نادرة تحمل على الأرجح صورة جميزة بيروت، من تصوير الأخوة سارافيان في نهاية القرن التاسع عشر.
شجر الجميز هو من جنس التين "فيكوس" المعمّر الذي يعيش لمئات السنين في أقسى الظروف الطبيعية. ومن أقدم أشجار الفيكوس التي ما زالت على قيد الحياة في العالم العربي شجرة الفيكوس البنغالي (بانيان) المعروفة باسم "الشجرة الخديوية"، التي جلبها الخديوي إسماعيل عام 1868 وتمت زراعتها في حي الزمالك في القاهرة. ومثلها شجرة في الجامعة الأميركية في بيروت، رعت حوالى العام 1880 وما زال طلاب الجامعة يتسلقون جذورها الهوائية. ومنها ايضاً أشجار الفيكوس التي تظلل الحدائق العامة ويعود بعضها لأكثر من ثمانين عاماً، كالشجرة المسماة "شجرة التنابل" في حديقة "المنشية" بمدينة طرابلس اللبنانية، وأشجار حديقة "البطرني" بالقرب من ميناء مدينة اللاذقية.
الصورة: شجرة جميز قديمة في بيروت، تصوير الأخوة سارافيان نهاية القرن التاسع عشر.
|