من مشاريع كتبي المؤجلة كتاب عن طائر البوم، له عنوان هذا المقال، أُنصفُ فيه هذا الطائر المسكين الذي ينفر منه الناس. وتشاركني الحماسة للبوم صديقة إماراتية تُفرد في بيتها ركناً تجمع فيه مئات القطع الفنية لأنواع من طيور البوم، التي لا تخلو من ملامح جمال وتمتلك قدرات خاصَّة ومهارات متميِّزة لا تشفع لها عند معظم سكان الأرض، حتى أن اسم البوم في بعض لغات البشر يعني "الساحرة الشرِّيرة".
قد يكون سبب تشاؤمنا عند رؤية البوم أننا لم نعتد رؤيته إلاَّ ليلاً وفي الأماكن غير المأهولة. فمعظم أنواع البوم من الليليات، تنام نهاراً وتنشط ليلاً. وقد ننزعج أيضاً عند النظر في عينيه الواسعتين اللامعتين، اللتين لا تتحرَّكان في محجريهما بل تبقيان ثابتتين موجَّهتين إلى الهدف الذي يرصده الطائر.
لقد عوَّض الله البوم عن هاتين العينين الجامدتين برأس قادر على الدوران، مرتكزاً على المحور الرأسي للرقبة بحرِّية تامة وفي دائرة كاملة، بحيث يمكن البومة أن تلفّه من الأمام إلى الخلف في لحظة خاطفة بينما جسمها في موضعه لا يتحرَّك. وهذه القدرة تساعدها على سرعة رصد الأعداء أو الفرائس، لتتخذ قرارها بالدفاع أو بالهجوم.
وقد اكتشف العلماء مؤخَّراً أمراً عجيباً في الإمكانات السمعية لدى طائر البوم، إذ لاحظوا أن العين تقع في مركز دائرة متَّسعة تشبه طبق فنجان القهوة. واتضح لهم أن لهذا "الطبق" حساسية فائقة في استقبال أضعف الأصوات وتجميعها وإيصالها إلى الأذن. فإذا أضفنا هذا إلى الإمكانات الخاصة للأذن ذاتها، كجهاز متقدِّم يمكنه التعرُّف على أدقِّ الأصوات، اكتملت للبوم أدواته كصيَّاد ماهر. فإذا سمعت البومة صوت حركة فريستها، ورصدت عيناها موقعها، فإنها تنقضُّ في لمح البصر كأحدث طائرة حربية، لتخطف الحيوان، السيئ الحظ بين مخالبها.
ولكي يكتمل عنصر المفاجأة، فإن البومة وهي تداهم ضحيتها لا يصدر عنها صوت يثير الانتباه. فريش جناحيها ناعم جداً، يضرب الهواء في ليونة، فلا يكون للجناحين المرفرفين صوت يُسمع. وبالإضافة إلى ذلك، لا تحتاج البومة لأن تضرب الهواء أو ترفرف بجناحيها كثيراً. فالجناحان كبيران بما فيه الكفاية، حتى أنهما يستطيعان أن يحملا الجسم بسهولة. فترى البومة تحوِّم وتناور في الهواء، بانسيابية بديعة، كما لو كانت طائرة شراعية.
من الخصال غير الحميدة في البوم، والحقُّ يُقال، أنه كسول فيما يختصُّ بإنشاء مسكنه. فهو يفضِّل المساكن الجاهزة، فيروح يراقب طيور العقعق وأبي زريق حتى تغادر أعشاشها، فيحلُّ بها محتلاًّ. وثمة نوع يعيش في أميركا الشمالية ويسمَّى بوم الجحــور، لا يهنأ له عيش إلاَّ في جحور محفورة في الأرض، ولكنه لا يحفرها بنفسه، ولا يستطيع، وإنما يسكن الجحور التي تحفرها الكلاب البريَّة ثم تهجرها.
لكن البوم، الذي يبدو مزعجاً ومثيراً لمخاوفنا، هو طائر يعرف المشاعر الأبوية، ويحرص على الحياة الأُسريَّة. فلا ينقطع الأبوان عن رعاية الصغار وإطعامها وتعليمها أُصول الطيران والقنص، حتى يطمئنَّا إلى اكتسابها المهارات الأساسية التي تعينها على الانطلاق في الحياة معتمدةً على أنفسها.
|