إنه أقرب الجيران إلينا، بيته خلف تلالنا، يبعد عن بيتنا نحو 385 ألف كيلومتر فقط لا غير. وكان في ما سبق مستقراً عندنا، في المبنى الذي نسكن فيه: الأرض! لكنه اقتُطِع منها اقتطاعاً، كما يقول علماء، حين ارتطم بها جرم سماوي بحجم المريخ قبل نحو خمسة بلايين سنة. إلا أنه لم يبتعد كثيراً، وبقي جاراً عزيزاً مُرحَّباً به.
ولو لم يحدث ذلك لكانت أحوال الأرض مختلفة، ولامتنع الشعراء عن قول القصائد في وصف القمر، ولما غنت فيروز للقمر الجار. كما أن العلماء لم يكونوا ليتطلعوا إلى ارتياد الفضاء، فعندما بدأ هذا النشاط كان جارنا هذا أول محطة لسفن الفضاء. وقد كشف العلماء عن سر تأثر البشر عاطفياً تحت ضوء القمر، ويقولون إنه يشبه تأثيره على الأرض ببحارها ومحيطاتها، فأجسامنا البشرية مثل أوانٍ مائية، كالبحار، تؤثر فيها قوة جاذبية القمر، فتعيش بين حالتي مد وجزر.
لدينا ثلاثة أجسام فضائية متفاوتة الأحجام، مترابطة وفق نظام محكم من الدورانات وقوى التجاذب. فالشمس تجذب الأرض إليها، لا تفلتها، ولكن تسمح لها بأن تدور حولها في مدار ثابت، دورةً واحدة كل سنة تنتج عنها الفصول الأربعة، ودورةً حول ذاتها لينتج الليل والنهار. وبين الأرض والقمر تجاذب متبادل، يحتفظ للقمر بمدار ثابت حول الأرض يُتمُّ فيه دورة حولها كلَّ يوم كامل تقريباً.
هذا يعني أن الأرض تتأثر، حسب قوانين اسحق نيوتن، بقوة جاذبية كل من الشمس والقمر، وأن هذه القوة تختلف باختلاف موقع الأرض بالنسبة إليهما، تبعاً لنظام ثابت أيضاً تتميز فيه حالتان: في الأولى، تكون الأجسام الثلاثة على خط واحد: الشمس، والقمر، والأرض. وفي الثانية، تكون الأرضُ مركز زاوية قائمة ينتهي أحد ضلعيها بالشمس والآخر بالقمر.
في الحالة الأولى تكون قوة الجذب الواقعة على الأرض مساوية لمجموع قوتي جذب كل من الشمس والقمر. وفي الحالة الثانية تكون الأرض تحت تأثير قوة جذب ضعيفة من اتجاه الشمس، لبعد المسافة بين الشمس والأرض، بينما تكون قوة جذب القمر هي المؤثرة.
يؤدي وقوع الأرض تحت تأثير هذا التجاذب إلى حركة المياه في بحار الأرض ومحيطاتها، وهي المعروفة بظاهرة المد والجـزر. ففي وقت خضوع الجانب من الكرة الأرضية لقوة الجذب، سواء كانت قوية أو ضعيفة، تنحسر المياه عن الشواطئ وتتوافد إلى وسط المسطح المائي، وهذا هو الجزر. ويستمر ذلك لساعات قليلة، إلى أن يتلاشى تأثير قوة الجذب، فتعود المياه منطلقة إلى السواحل وتغمر الشواطئ، وهذا هو المدّ.
وللقمر فضل على الأرض أكبر من ذلك من خلال المد والجزر. إذ تعمل التيارات الهائلة المتولدة عن هذه الظاهرة على استخلاص الأملاح والعناصر الكيميائية من أحجار اليابسة ونقلها إلى مياه المحيط، لصنع ما يسمى "حساء المخاليط"، الذي يعتقد علماء أنه أساس الحياة التي بدأت في الماء، ولولاه للجأت الكائنات الأرضية إلى التعاطي مع أحوال "أرض بلا قمر" بأنماط مختلفة من السلوكيات.
|