في دراسة بحثية تم نشرها قبل عامين، خلص عدد من الباحثين في جامعة بريتيش كولومبيا إلى أن المعطيات الخاصة بالمقالات العلمية تضيع مع مرور الوقت، فمن بين 516 دراسة تتصل بعلم الأحياء جرى نشرها خلال الفترة بين عامي 1991 و2011، تعذر على الباحثين الوصول إلى 90 في المئة من البيانات التي قامت عليها الدراسات المنجزة قبل عشرين عاماً. أما الدراسات الحديثة، بما فيها تلك التي جرى نشرها عام 2011، فإن 23 في المئة فقط من بياناتها كان بالإمكان تعقبه.
إذا كانت البشرية فقدت أكثر من ثلاثة أرباع معطياتها البحثية المنجزة خلال العقد الأخير فقط، فما هو مقدار المعرفة التي ضاعت على مر التاريخ؟ وهل هذه المعرفة المفقودة من الأهمية بمكان لتستحق البحث والتدقيق؟
عندما تنظر إلى هرم خوفو في مصر، الذي تم تشييده قبل نحو ستة وأربعين قرناً، فإنك تنظر إلى أعجوبة هندسية يصعب تنفيذها حتى بتقنياتنا المعاصرة. الهرم مكون من كتل صخرية يزن كل منها اثني عشر طناً تقريباً مرصوفة بدقة وإحكام مدهشين بحيث تشكل جبلاً صناعياً يزن ستة ملايين وخمسمئة ألف طن، علما أن أعلى بناء في العالم حالياً (برج خليفة) يزن فارغاً خمسمئة ألف طن.
أما إذا كنت في لبنان، فعليك بزيارة هيكل جوبيتر في بعلبك لمشاهدة الكتل الصخرية الثلاث الضخمة في الجهة الغربية من أساس الهيكل التي تم نحتها ونقلها من مقلع يبعد أكثر من 500 متر، مع أن وزن الواحدة منها لا يقل عن 750 طناً. وستجد في المقلع أيضاً كتلتين صخريتين مقطوعتين ولم يتم نقلهما تزن الواحدة منهما ألفي طن، علماً أن أضخم رافعة في العالم حالياً لا تستطيع رفع ثقل يزيد وزنه عن 1200 طن.
من المعارف التقنية التي تحولت لغزاً لا يزال العلماء يسعون لحله هو سر صناعة السيف الدمشقي، ذاك السيف الفريد من نوعه الذي يتصف بالقوة والمرونة والحواف الحادة. قبل سنوات، اكتشف باحثون من جامعة دريسدن الألمانية أن فولاذ السيف الدمشقي يحتوي أنابيب دقيقة من الكربون بحيث يمكن رصف عشرة ملايين من هذه الأنابيب بعضها بجانب البعض فوق رأس دبوس، أي أن الحرفي الدمشقي ابتكر طريقة ضاعت أسرارها قبل أربعمئة عام، لتصنيع سيف بمواصفات استثنائية باعتماد ما يسمى حالياً بتقنية النانو.
الأمثلة التاريخية عن المعارف المفقودة كثيرة لا يتسع لها المقال، ونحن نتحدث هنا عن شواهد وصروح ترتبط بهذه المعارف، فكيف تكون الحال مع العلوم والتقنيات التي اختفى كل أثر لها ولا نعرف عنها شيئا؟
أما الأبحاث المعاصرة التي يشارك فيها العرب، فهي شأنها شأن بقية الأبحاث العالمية معرضة بياناتها للضياع والإهمال. الأسوأ من ذلك أن هذه الأبحاث تتعرض بشكل متواصل لما يمكن تسميته بعملية "الردم الرقمي" بأخبار ومقالات لأبحاث زائفة وابتكارات وهمية تحدث ضجة إعلامية تغطي على أهمية الدراسات العلمية الحقيقية.
على سبيل المثال، للعلماء العرب المعاصرين مساهمات معتبرة في أبحاث الطاقة المتجددة، ولكن عندما تبحث في الإنترنت حول هذا الموضوع سيفاجئك حجم الاختراعات العربية في توليد الطاقة من العدم! أشخاص يتصدرون صفحات وسائل الإعلام العربية باختراعاتهم الثورية التي سترفد العالم بطاقة مجانية لا تنفد، وستقضي على منظمة "أوبك"، وستنقذ الطبيعة من التلوث بطريقة عجائبية.
ابحث في الإنترنت عن "طاقة الجاذبية الأرضية" وستجد عشرات النماذج من هؤلاء الأدعياء. وقد لفتني من بينهم من ادعى أن اختراعه قد حصل على الحماية الدولية من المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، وبالعودة إلى وثائق الويبو، فقد تبين أنه بالفعل تقدم بتسجيل اختراعه ولكن تقييم المنظمة كان رفض التسجيل لأن ما يدعيه «يعمل بشكل مخالف لقوانين الفيزياء الأساسية، وبشكل خاص القانون الأول في الترموديناميك المعروف بقانون مصونية الطاقة». وللمفارقة فإن صاحب هذا "الاختراع" يقدم نفسه على أنه عالم في الفيزياء.
للأمانة، أين الإثارة الإعلامية في أن يقوم، على سبيل المثال، فريق بحثي من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بفك الشيفرة الوراثية للجمل العربي؟ وكيف ستجذب اهتمام الناس بتوصيف ماهية النيوكليوتيدات والكروموسومات؟
في المقابل، أخبار مطرب شعبي فشل في الوصول إلى مرتبة "علي الديك" فتحول إلى اختراع علاج للسرطان. أو طالب في الثانوية أكثر من مشاهدة حلقات "بن تن أومنيفرس" فوجد في نفسه الكفاءة على تقديم ابتكار في مجال الاندماج النووي. أو قريب لأحد النواب أراد أن يصيب شيئاً من شهرة قريبه فأعلن عن اختراع ينهي عصر الوقود الأحفوري. إنجازات مذهلة كهذه هي الجديرة بتغطية وسائل الإعلام العربية لأنها ببساطة "قمة الإعجاز العلمي"، وفق وصف أحدهم.