في وسط محمية "أبو رجمين"، في قلب البادية السورية، حيث من النادر أن تجد بشراً على مد النظر، شاهدت طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمره عشر سنوات. سألته عن اسمه، فأجاب "عدنان"، وعندما استفسرت: ماذا تفعل هنا يا عدنان؟ قال: "سارح بالطليان".
"السارح بالطليان" لا تعني من هو مشغول البال بالإيطاليين، كما قد يظن البعض، بل هي جملة عربية فصيحة وبليغة في آن، ويُقصد بها من يخرج في الصباح الباكر مطلقاً صغار الماشية لترعى.
أخبرني عدنان أنه يأخذ زوادة الطعام التي تعدّها له أمه ثم ينطلق مع خرافه في أرض المحمية الواسعة، يتنقل من مكان إلى آخر حسب توفر المرعى، وفي نهاية النهار لا يعود إلى بيته بل يبيت بالقرب من ماشيته.
على حداثة سنه، يعرف عدنان مواضع الآبار والمراعي في المنطقة، ولذلك فإن خرافه لن تخشى نقصاً في الماء أو الكلأ. وهكذا، يبقى عدنان سارحاً بالطليان لبضعة أيام تفرغ في نهايتها زوادته، ويضطر عندها للعودة إلى خيمة أهله لملاعبة أقرانه والتزود بالطعام من جديد.
ما ذكرني بهذا اللقاء العابر هو فيلم سينمائي شاهدته مؤخراً عن فتى في مثل هيئة عدنان وجسارته، وكذلك في مثل قدرته على التكيف والتعايش مع محيطه في أقسى الظروف وأصعبها.
فيلم "ذيب" للمخرج الأردني ناجي أبو نوار يعرض مغامرة فتى من البدو الرحل في صحراء وادي رم خلال فترة الثورة العربية الكبرى في العقد الثاني من القرن الماضي، وذلك في إطار درامي مؤثر تتطور فيه شخصية الفتى ذيب بشكل سريع وتشهد تحولاً حاداً بين المسامحة والانتقام.
هناك الكثير مما يجمع بين عدنان، الفتى الحقيقي من جبل أبو رجمين، وذيب، الفتى المتخيل من وادي رم، فهما من ذات طبيعة المجتمع (بدو رحل) ويملكان ذات ملامح الشخصية القوية المستقلة القادرة على تدبر الأمور من دون مساعدة من أحد. بل المدهش أنك لا تكاد تجد فارقاً بين "ذيب" بدايات القرن العشرين و"عدنان" بدايات القرن الواحد والعشرين، لكأن الزمان قد توقف مئة عام بالتمام والكمال!
ما ساعد على تعزيز هذا التشابه أن من قام بدور ذيب في الفيلم هو فتى بدوي حقيقي (جاسر عيد) ينتمي لإحدى العشائر التي تعيش في المنطقة، ولذلك فقد كان هذا الفتى يعيش الدور بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
حياة البداوة القائمة على التنقل والترحال تتطور فقط من خلال تناقل الخبرات والتجارب المحلية بشكل محافظ، هي حياة قاسية وبسيطة في ذات الوقت، تعتمد التواصل مع المحيط الطبيعي بالدرجة الأولى، وبدرجة محدودة مع محيطها من الحَضَر (المدن والقرى)، وهي بالتالي لا تشهد تطوراً ملحوظاً في أدواتها وعلاقاتها كما هي الحال بالنسبة للمجتمعات المتمدنة ذات الأدوات المعقدة والعلاقات المتشابكة.
إن من أسباب فشل خطط تنمية المجتمعات البدوية ودعمها هو أن مقاربتنا لمشاكلها تقوم على "تفكير حَضَري" لا يراعي طبيعة معيشة هذه المجتمعات. مثلاً، عندما تعاني بعض الأسر المرتحلة من ندرة حطب التدفئة خلال الشتاء، فإن الحل لا يكون ببناء مساكن نموذجية لها كما فعلت إحدى الجهات الحكومية العربية، بل يكون الحل بتوفير الحطب من أقرب غابة، وإن كانت تبعد مئات الكيلومترات.
في أمور كهذه، وعندما يتقاطع تنفيذ أي مشروع واستثماره مع مصالح المجتمعات الأصيلة في المنطقة، مثل شق الطرقات وتشجير المساحات الجرداء وإقامة التجمعات السكانية وغيرها، يصبح تقييم الأثر الاجتماعي أمراً واجباً وليس ترفاً زائداً، فما يبدو لنا كعمل تنموي قد يكون مدمراً لتلك المجتمعات، سيما وأن التغيير المفاجئ في نمط معيشة مجتمع ما كفيل بتفكيكه وإظهار أسوأ ما فيه.
لتبسيط ذلك، دعونا نفكر بطريقة معاكسة: ماذا لو طبقنا "التفكير البدوي" على أهل الحضر، فأتينا بطفل نشأ في المدينة وكلفناه بالأعمال ذاتها التي كان يقوم بها ذيب أو عدنان؟ بالنسبة لذيب ستنتهي قصته بشكل مأسوي في اللقطة الثالثة أو الرابعة لفشله في التعامل مع بندقية الصيد. أما بالنسبة لعدنان فسيكون سارحاً، ليس بالطليان التي شردت بعيداً عنه، وإنما في كيفية النوم في العراء وسط الذئاب.