جنح حوت إلى الشاطئ، بين المخيَّم الصيفي وقرية سياحية ساحلية قرب مدينة مرسى مطروح غرب الإسكندرية. وكانت تلك أول حادثة جنوح أو ترنُّح لحيوان ثديي بحري في المنطقة. ساد هرج ومَرج، وانتشرت بين عمال المخيم والقرية السياحية حكايات غريبة عن «الوحش» البحري الذي ألقى بنفسه على الشاطئ.
وتردد اسمي في مكتب إدارة المخيم، بصفتي متخصصاً في علوم البحار. فاعتبرني مدير المخيم مستشاره العلمي، ووجدت نفسي متورطاً تماماً في قصة «وحش باجوش»، وهو الاسم الذي أطلق على الكائن البحري المسكين نسبة إلى اسم موقع المخيم. أُسقط في يدي، أنا الذي جئت هرباً من انشغالات العمل، فإذا به يطاردني في خيمتي الشاطئية. ووجدتني أخرج مع فريق من المتطوعين إلى حيث هلك الوحش.
ومع أنني لست متخصصاً بالثدييات البحرية، فقد كان من السهل أن أتعرف على صاحب الجثة، ذي الرأس الضخم المربع الشكل الذي يبلغ طوله نحو ثلث الطول الكلي للجسم، والذي لا يمكن أن يكون لنوع آخر من الحيتان غير حوت العنبر، واسمه الشائع بالإنكليزية Sperm Whale، الذي ربما شاهدتموه مع «كابتن أهاب» في الفيلم المأخوذ عن رواية هيرمان ميلفيل الشهيرة «موبي ديك»، وهو ينطلق إلى السطح صاعداً من الأعماق السحيقة. فنحن أمام أقدر الغواصين اللبونين على الإطلاق، وهو يغوص مستعيناً بمادة شمعية يفرزها عضو في رأسه، إن تجمدت بفعل الماء البارد ارتفعت كثافتها وازداد وزنها وساعدت الحوت على إتمام الغوص العميق إلى نحو 3000 متر.
ويتغذى حوت العنبر أساساً على الأسماك، فإن صادف أذى في طعامه أسرعت مادة العنبر إلى أمعائه، وأحاطت بالغذاء غير المرغوب فيه ليطردهما الحوت معاً إلى الماء. فيجدهما سعيد الحظ، ويستخلص مادة العنبر العطرية الفواحة، التي تحتوي على نحو 25 في المئة من مادّة تسمّى ambrein لها رائحة تشبه رائحة المسك، ينتشر عبقها بسرعة كبيرة وتعلق بالملابس.
كان حجم الحوت ضخماً، إذ قارب طوله 15 متراً. وحرنا ماذا نفعل به. فعرضتُ أن نحضر رافعة وشاحنة ضخمتين، وننقله إلى منطقة في عمق الصحراء، وهناك ندفنه، أملاً في أن يتحلل بعد سنوات، فيسهل علينا استخلاص عظامه وإعادة ترتيبها للعرض في القرية السياحية، أو في المخيم، أو لإهداء الهيكل إلى متحف الأحياء المائية. لقي الاقتراح قبولاً على أن نرجئ التنفيذ إلى الصباح.
وفي الصباح، عدتُ إلى موقع حوت العنبر، ففوجئت بما لم يكن ليخطر على بالي أبداً. لقد جاء في الظلام من قام بفصل الرأس، واستخلاص الأمعاء، ولم يترك إلا كتلاً من الدهون واللحم وبحراً من الدماء.
لم يكن من الصعب إدراك أن ثمة من فطن إلى أهمية الرأس والأمعاء، فسعى إليهما، وترك لنا نصف جثة الحوت، لنرفعها على الشاحنة التي سارت به في أغرب جنازة، إلى أغرب قبر، في موقع بعيد في الصحراء.
|