من أخطر مشاكل العالم المتخلف، والمتقدم أيضاً، نقلُ التكنولوجيا.
اهتمَّ بها الناس لفترة من الزمن، ثم خفّ الاهتمام، لأن منتجي التكنولوجيا يهمهم طوال الوقت أن يبيعوا، بينما يتكالب عليها مستهلكوها ما دامت في متناول قدراتهم الشرائية. وما أكثر هؤلاء المشترين في الدول المتخلفة، حيث يكثر أغنياء الحرب وتجار الممنوعات.
ولم يعد أحد يشير إلى ما يترتب على هذا النقل من أزمات وكوارث، فالقادرون على الشراء يأخذون من السلعة التكنولوجية ما يفيدهم في حياتهم اليومية، ولا صلة لهم بالمعرفة (Know-How) لا علمياً ولا ثقافياً. التكنولوجيا لا تتجزأ، فهي ليست مجرد أدوات تستخدمها، بل أسلوب فكر وحياة، إن اكتفيت بالمادي منه (الأدوات) أسأت استخدامها، لأنك غير متساوق مع الروح العامة للتكنولوجيا.
حدثني أحد تلاميذي الليبيين، وهو ينقلني بسيارته من مدرسة مصراتة الثانوية في شمال ليبيا حيث علَّمت خلال العام الدراسي 1980 - 1981، عن جهاز منزلي متعطل يحمله في السيارة. سألتُه عما إذا كان ذاهباً به إلى محلّ لإصلاحه، فابتسم من أفكاري "المتخلفة"، وقال ما معناه: "لمَ المحل؟ ولم الإصلاح؟ ثمة أجهزة أخرى في المتاجر". ولخص الموقف في كلمات قليلة قاطعة: "تعطل؟ إرمِهِ! إشتر جديداً!"
قد تكون مسألة رمي الأجهزة والمنتجات التكنولوجية المتعطلة خفيفة الوقع إن كانت ثمة خطط أو برامج لتدويرها كمهملات ذات طبيعة خاصة وإعادة استخدامها. غير أن مآل هذه المهملات هو مكبُّ النفايات، تأكيداً على أننا نعيش على سطح كوكب يستحق عن جدارة أن يسمى "كوكب النفايات" لا "كوكب الماء"، لأن جانباً من الماء أيضاً يتحول في أطوار دورته إلى نفايات.
إذاً، أحد وجوه معضلة نقل التكنولوجيا هو إشباع الغول الاستهلاكي، والوجه الآخر هو توفر ثمن الشراء في جيوب عامرة بأوراق النقد. ويتبدى للمعضلة جانب أشد سوءاً، حين يكون التكالب على المعطيات التكنولوجية المستحدثة وليد انبهار أبله، وبدافع الاقتناء لإضفاء مسحة عصرية زائفة على ذوات ما زالت تعيش بعقولها وأرواحها حياة العصور الوسطى من عمر حضارة البشر على سطح الأرض.
رأيتُ في صباي جاراً اقتنى ساعة يدٍ حديثة، بمقاييس نصف قرن انقضى. وكان حريصاً وهو يمر بالشارع على أن يرفع يده اليسرى كأنه يراجع الوقت في ساعة يده، وغرضه هو استعراضها. وكان لا يمل من التفاخر بأنها "أوتوماتيكية" تعمل بـ"الحجارة"، أي بالبطارية الجافة. وكان العائدون من حرب اليمن في ستينيات القرن الماضي يحرصون على أن يجلبوا معهم راديو "ترانزيستور" يعمل بالحجارة أيضاً. ويبدون في قمة سعادتهم وهم يسيرون متمهلين في الشوارع، حاملين الراديو، وكان كبير الحجم في أول ظهوره، متباهين بأنهم يستمعون إلى الإذاعات وهم سائرون، فقد انتهي عصر راديو الصمامات الكهربائية الثابت.
ولا عتب على قوم ينقصهم التعليم والوعي إن هم سلكوا مثل هذا السلوك، غير أن التباهي السطحي بتعاطي منتجات السحر التكنولوجي طال غيرهم من متعلمين ومثقفين. انظر مثلاً إلى هيئة نقابية يفترض أنها تضم الصفوة، كاتحاد الكتَّاب المصريين. ما إن طرح أحد أعضاء مجلس إدارته إنشاء لجنة للإنترنت، في بداية شيوعها، حتى أذعن له المجلس، منحازاً إلى "روح العصر"، بغير أدنى تفكير في أن الإنترنت أداة اتصال عصرية لن تلبث أن تكون في متناول كل سكان الأرض، فما ضرورة أن تُنشأ لها لجنة لا تزال قائمةً حتى الآن؟ هل ستطورها مثلاً؟ ولماذا إذاً لا تكون ثمة لجان للفاكس وللهاتف الجوال؟
|