يحكى أنه في قرية من القرى النائية كان يوجد معالج شعبي ورث المهنة عن أبيه الذي علّمه أسرار الاستطباب بالأعشاب الطبيعية وبعض الممارسات الأخرى التي لا تخلو من شعوذة وخداع. وقد أطلق أهل القرية على هذا الرجل لقب "الحكيم"، فإذا شُجّ رأس أحدهم فليس هناك سوى "الحكيم" لتقطيب جرحه كيفما اتفق، وإذا التهبت لوزتا إحداهن فليس هناك سوى "الحكيم" لقطافهما بيديه المجردتين.
عندما يصيب الألم بطن طفل فإن العلاج كامن في أعشاب الحكيم، وعندما تزداد الآلام فإنه يلجأ في علاجه السحري إلى "الخشخاش" المخدر لتسكين الآلام. إذا اشتد المرض على رجل وعجز الحكيم عن علاجه، فإنه يعزو ذلك إلى وجود "سحر" أو "قرين"، وإذا مات فالتراب كفيل بستر أخطاء الحكيم وتجاربه الفاشلة. فمن ذاك الذي يجرؤ على حساب حكيم القرية وطبيبها الأوحد؟
مع مرور السنين بدأت أحوال القرية في التغيّر بفتح المدارس وسفر الأبناء إلى المدينة لمتابعة تحصيلهم العلمي. وفي يوم من الأيام، عاد أحد أبناء القرية ليفتتح أول عيادة فيها لعلاج أمراض الأنف والأذن والحنجرة. وقد أدرك الحكيم أن هذا الطبيب سيسحب البساط من تحت قدميه، فوضع في مدخل دكانه لوحة كتب عليها "الحكيم للطب الشعبي وعلاج أمراض الأنف والأذن والحنجرة". وفي السنة التالية شهدت القرية افتتاح أول عيادة للأمراض الداخلية، فما كان من الحكيم إلا أن أضاف هذا الاختصاص إلى لوحته.
بعد نحو عشر سنين امتلأت القرية بعيادات الأطباء في جميع الاختصاصات، وكذلك كانت الحال مع اللوحة في مدخل دكان الحكيم، التي أصبحت ضخمة جداً وأشبه ما تكون بلوحة إعلانات رسمية تغص بالاختصاصات الطبية والمصطلحات التي لا يعرف الحكيم نفسه معناها وطريقة لفظها. وفي سبيل حفظ ماء وجهه وتجنب الملاحقة القانونية، قرر إزالتها واستبدالها بلوحة صغيرة كتب عليها: "الحكيم لشفاء المريض والسقيم بمشيئة من يحيي العظام وهي رميم". ولم يضطر بعد ذلك لإضافة حرف واحد إلى هذه اللوحة.
لقد لعب هذا "الحكيم" وأمثاله دوراً مهماً في المجتمعات البدائية غير المتعلمة، وكانت معارفهم وخبراتهم المتوارثة تلبي الحاجات الدنيا من متطلبات هذه المجتمعات. ومع تطور العلوم وطرائق البحث تراجعت أدوار هؤلاء "الحكماء"، أو هكذا نظن، وأضحى صاحب الاختصاص هو المرجع في اختصاصه، فلم نعد نسمع مثلاُ من يلتجئ إلى معالج شعبي لإجراء عمل جراحي. مع ذلك، لا يزال هؤلاء "الحكماء" يتكسبون من آلام المرضى حيث لم يطور العلم أدواته بعد. ويكفي أن نتابع الإعلانات عن العلاجات الشافية من الأمراض العضال والمتلازمات الوراثية في وسائل إعلامنا العربية لندرك حجم "البزنس" الذي يديره هؤلاء.
هذا الصنف من الناس لا تجده في الطب فحسب، بل في كل علم واختصاص يقتص منه المرء مالاً أو شهرة. ولئن كان "حكيم القرية" قد اكتسب معارفه من تجارب الحياة فقط من دون تحصيل علمي، فإن بعض من يتصدرون وسائل إعلامنا العربي يعتقدون أنهم أوتوا "الحكمة" في جميع الاختصاصات العلمية مهما كانت بعيدة عن اختصاصهم الأكاديمي. ثم تجدهم لا يتكلمون بلغة المثقف المطلع على هذه الاختصاصات، بل بلغة المختص الخبير الذي يحلل ويفسر ويطرح البدائل والحلول، عارضاً ذلك بأرقام ومؤشرات ما أنزل الله بها من سلطان.
من الطبيعي أن نجد مختصين في مجالات شتى يتحدثون عن قضايا البيئة وهمومها بمستوى الوعي والفهم العام للحديث عن الأمراض والمشاكل الصحية. ولكن من المستهجن أن نتقبل حديث مهندس ميكانيكي يصف دواء لعلاج اعتلالات القلب. فكيف لا نستهجن ما يقوم به غير المختصين من ترويج "علاجات" دون سند علمي لمشاكلنا البيئية كإدارة النفايات الصلبة ومعالجة الصرف الصحي والحد من تلوث الهواء؟ متى يدرك هؤلاء "الحكماء" أن هذه المسائل هي اختصاصات علمية لها أهلها وناسها، وأن ما يقومون به ليس أكثر من تضليل وانتحال صفة؟
|