تم اتخاذ قرار توسيع كورنيش الإسكندرية في غرفة مغلقة. فوجئ سكان المدينة ذات صباح ببداية العمل في المشروع الذي كانت تريد منه الإدارة السياسية "توسيع السكة" للمستثمرين، حسب ما أُعلن وقتها، ولم ينتظروا ليستمعوا إلى أحد يقول لهم ادرسوا الآثار البيئية لما تقومون به. وتم إنجاز المشروع في وقت قياسي لم يعرفه تاريخ المشاريع العامة في مصر.
وهكذا، أنشئ أغرب "أوتوستراد" في العالم. فالمعروف عن هذه الطرق السريعة أنها تجري خارج النطاق العمراني للمدن، أما أوتوستراد الكورنيش فيجري قبل أن يبدأ هذا النطاق، ليحمل الهواء النقي القادم توَّاً من البحر أدخنة عوادم السيارات، ويوزعها بالقسطاس على المدينة الساحلية التي لا يزيد أقصى عمق لها، في اتجاه الجنوب، عن بضعة كيلومترات.
وسارع بعض الفنانين في المدينة إلى مقاول العملية يعرضون عليه "تذويقها" من أجل المستثمر المأمول. فأطلق لهم العنان، فتسابقوا إلى تعاقدات لإقامة أعمال سيراميك أطلقوا عليها اسم "جداريات"، هي أبعد ما تكون عن هذا الفن الجميل، الذي يخرج إلى الناس في الطرقات ليتفاعل معهم بشأن قضايا مصيرية، ولا يقتصر دوره على إكساء الجدران بتكوينات سيراميكية تلمع ببلاهة، لا تقول شيئاً، ولم ير فيها سكان المدينة إلاَّ أماكن يحتكرها المصورون لتصوير العروس والعريس يوم الزفاف.
وراحت جداريات الكورنيش تستقبل خليطاً من مواد كيميائية نشطة مصدرها عوادم السيارات، وبخار الماء والرذاذ الذي تحمله الرياح من البحر. أما كيماويات العوادم فأهمها:
أولاً، الهيدروكربونات غير المحترقة أو غير التامة الاحتراق، وهي مركبات عضوية متطايرة يتحول جانب كبير منها في ضوء الشمس إلى مركب الأوزون. متوسط انبعاثاتها عند السرعة الثابتة 400 جزء في كل مليون جزء من الهواء، وفي حالة تباطؤ المركبة يرتفع المتوسط إلى 7500 جزء في المليون.
ثانياً، أول أوكسيد الكربون، وهو غاز سام لا لون له ولا رائحة، يسبب الوفاة في الأماكن المغلقة خلال 30 دقيقة في حال وجوده بنسبة تركيز منخفضة هي 0.3 في المئة من حجم الهواء. ويبلغ متوسط نسبته في عادم سيارة ذات سرعة ثابتة 4 في المئة، وعند التباطؤ 3 في المئة.
ثالثاً أكاسيد النيتروجين، وأهمها أول وثاني أوكسيد النيتروجين، وينشأ عنها الضباب الدخاني (smog) كما تساهم في تكوين الأمطار الحمضية. وتوجد في العادم بمتوسط قدره 2000 جزء في المليون عند انطلاق السيارة بسرعة ثابتة، ويقل إلى 30 جزءاً في المليون في حالة التباطؤ.
رابعاً، ثاني أوكسيد الكربون، الذي يصل محتواه في عادم السيارة في حالة السرعة الثابتة إلى 12 في المئة بالمتوسط، ويقل عند التباطؤ إلى 6 في المئة.
وأما ما يساهم به البحر من عناصر ومركبات كيميائية فأهمها (والوزن الموضح بالغرام في الكيلوغرام الواحد من مياه البحر) الكلور: 19، الصوديوم: 11، الكبريتات: 3، المغنيسيوم: 1، وكل من البيكربونات والكالسيوم والبروم والبوتاسيوم والفلور: أقل من غرام واحد.
وتنتج من تفاعلات متسلسلة بين مكونات هذا الخليط مركبات ذات طبيعة حمضية، وأخرى قلوية، تتراكم جزيئاً فوق جزيء، مع الوقت، على السيراميك والبورسلين في الجداريات، وأساس صناعته السليكا، أو الرمل والفلسبار، وهو سيليكات ألومونيوم تحتوى على عناصر البوتاسيوم أو الصوديوم أو الكالسيوم، بالإضافة إلى الحجر الجيري (الكلسي).
ومع غياب الصيانة أو إهمالها، وهي مكلفة، ينطفئ بريق السيراميك، ويفقد قيمته كخلفية لصورة تذكارية تجمع بين عروس وعريس يبدآن رحلة الحياة.