بعد الاعتراف المدوي لشركة فولكسفاغن باعتمادها الخداع والتحايل لتجاوز اختبار الانبعاثات على سياراتها العاملة على الديزل، تسابقت وسائل الإعلام الأميركية لتضخيم هذه الفضيحة، على ضخامتها، في محاولة للنيل من صناعة السيارات الأوروبية دعماً للصناعة الوطنية الأميركية.
موقع Business Insider نشر مقطع فيديو أظهر أن ما تطلقه سيارات فولكسفاغن يقارب 1.1 مليون طن من أكاسيد النيتروجين سنوياً. ومع الأخذ في الاعتبار أن أكاسيد النيتروجين هي من غازات الدفيئة وذات مكافئ كربوني يساوي 300 ضعف ثاني أوكسيد الكربون، فإن الانبعاثات الناتجة عن سيارات فولكسفاغن حول العالم تعادل مجمل الانبعاثات الناتجة عن المملكة المتحدة.
المقطع الذي نشرته بيزنس إنسايدر كان مثيراً، إلا أنه احتوى خطأ بسيطاً لم ينتبه له "علماء" الموقع الأميركي الذين خلطوا بين أكاسيد النيتروجين وأوكسيد النيتروز، ذلك أن الأخير هو الوحيد بين أكاسيد النيتروجين الذي يصنف ضمن غازات الدفيئة بمكافئ كربوني مقداره 310.
أوكسيد النيتروز، أو غاز الضحك، يتم استخدامه في سيارات السباق لتحسين احتراق الوقود في المحرك، لكنه لا يُستعمل في المحركات التقليدية كتلك المعتمدة في سيارات فولكسفاغن، ولا ينبعث عنها. أكاسيد النيتروجين التي تطلقها سيارات فولكسفاغن يمكن أن تتسبب بأمطار حمضية وزيادة الأوزون الأرضي، وزيادة المغذيات في المياه، ومصائب أخرى، لكن لا علاقة لهذه الأكاسيد بالاحتباس الحراري لأنها لا تحتوي على أوكسيد النيتروز. أي أن لشركة فولكسفاغن الحق في أن ترفع الصوت عالياً وتصرخ كما فعل عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" عندما أُرغم على دفع فاتورة الهاتف وهو لا هاتف لديه.
الخطأ العلمي الذي ارتكبه موقع بيزنس إنسايدر يمكن تجاوزه، لأن المواقع التي على شاكلته تقوم على كتّاب ومحررين لا خلفية علمية لهم، أشخاص ترهقهم الأرقام والمصطلحات العلمية ويبحثون عن الإثارة والتشويق، بغض النظر عن الدقة والأمانة العلمية. ولكن، ماذا عن الأخطاء العلمية التي ترتكبها جهات استشارية وتتبناها جهات حكومية؟
نشرت مجلة "البيئة والتنمية" على موقعها الإلكتروني مقالاً لرئيسة تحريرها التنفيذية راغدة حداد تنبه فيه إلى خطأ فاضح في نسبة التنوع البيولوجي في لبنان كما أوردها التقرير الوطني الخامس للتنوع البيولوجي الصادر عن وزارة البيئة اللبنانية، وحددها بمقدار 21.7% من التنوع البيولوجي العالمي. صحيح أن الأستاذة حداد مختصة بعلوم الأحياء، ولكن هذه النسبة التي تصدّرت البيان الصحفي للوزارة هي من المبالغة بحيث يجب أن تستوقف أي مهتم بقضايا البيئة بغض النظر عن تخصصه.
إذا كان عدد أنواع النباتات والحيوانات التي يستضيفها لبنان وفق التقرير هو 9116 نوعاً، وإذا كان عدد الأنواع الحية العالمية التي يمكن حسابها ببساطة من النسب الواردة في الجدول 2 من التقرير ذاته هو 1,737,015 نوعاً موصوفاً، فكيف يكون ما مجموعه أقل من عشرة آلاف نوع حي في لبنان يمثل خُمس التنوع البيولوجي العالمي؟
كلنا نرتكب أخطاء في الحساب، ومع ذلك فإن شيئاً ما في رأسنا يجب أن يستيقظ ويصرخ رافضاً أية أرقام عندما تكون غير منطقية. وإذا كنا قد تجاوزنا خطأ موقع بيزنس إنسايدر باعتباره موقعاً إخبارياً غير مختص علمياً، فكيف يمكن لأحد أن يتجاوز خطأ جسيماً كهذا، ترتكبه جهة استشارية ولا يحرّك شكوك الجهات المدققة والمشرفة ولا الكوادر المتخصصة في الوزارة والجهات الداعمة؟
في مقال سابق كتبتُ عن إحدى وزارات البيئة العربية التي رفضت الاعتراف بتلوث الهواء لديها، إذ تجاهلت الأرقام الواردة في تقاريرها الرسمية التي تؤكد هذا التلوث وأخذت تفتش عن مؤشرات في صور فضائية أميركية كي تدعم وجهة نظرها. وها هنا نجد وزارة عربية أخرى تروّج لنسبة غير منطقية وردت في تقرير رسمي صادر عنها، وربما تجدها في المستقبل تتجاهل الأرقام الواردة في هذا التقرير وأمثاله. وعندها لا حاجة لطرح السؤال: ما هي مشكلتنا مع الأرقام في تقاريرنا الوطنية؟