تمعّن "يزن" في وجه المحقق محاولاً تقدير حجم الورطة التي أوقع فيها نفسه في بلد ما زال غريباً عليه بعد أن استقر فيه منذ أقل من ثلاثة أشهر. كان وجه المحقق بارداً يخلو من المشاعر، والكلمات تخرج من فمه برتابة من دون أي انفعال، وهذا ما دفع يزن إلى حثّ المترجم للإسراع في نقل كلمات المحقق إلى العربية بإيجاز ومن دون الخوض في التفاصيل الصغيرة. مع ذلك، أصرّ المترجم الذي استعانت به مديرية الشرطة في منطقة "ميته" وسط برلين، على نقل كل كلمة بأمانة من دون إنقاص حرف واحد.
لقد تعرّض يزن للكثير من المخاطر في رحلته الصعبة إلى ألمانيا. سبعة عشر يوماً أمضاها على الطريق منذ خاض البحر بالقارب المطاطي من بلدة بودروم التركية وصولاً إلى اليونان حيث احتجز ضمن معسكر. وبعد إطلاق سراحه انتقل إلى صربيا حيث عبر عدداً من القرى الصغيرة، واجتاز الحدود إلى هنغاريا حيث تم توقيفه لعدة أيام. وبعدها كانت الرحلة سهلة، إذ ركب القطار إلى فرانكفورت عبر النمسا وقام بتسليم نفسه إلى الشرطة الألمانية.
هي المرة الرابعة التي يتعرض فيها للتحقيق في أوروبا. ولكن هذه المرة غير كل المرّات السابقة، فالتحقيق لا يتعلق بتجاوزه الحدود بشكل غير شرعي حيث لقي تعاطفاً من البعض، بل يتصل بمخالفة القوانين الألمانية، الأمر الذي قد يضعه خلف القضبان لمدة ستة أشهر.
لطالما نصحه أصدقاؤه بالتخلي عن هواية تربية الحمام التي لا يأتي منها سوى المشاكل. ولكنه لم يتوقع في يوم من الأيام أن تتحقق هذه التوقعات المتشائمة في بلد يجهل لغته وقوانينه وعاداته. تربية الحمام هي أكثر من هواية بالنسبة إلى يزن، هي "سوسة" أو نمط معيشة لم يستطع التخلي عنه رغم محاولاته المتكررة. وقد تحوّلت هذه الهواية مع الزمن إلى حرفة تعود عليه بالمال من خلال مكاثرة أنواع الحمام وانتخاب المميّز منها الذي غالباً ما كان يجد مندفعين كثراً لشرائه مهما بلغ الثمن.
يدين يزن في تغطية نفقات سفره لثلاثة أزواج من الحمام تمكّن من بيعها قبل رحلته بفترة وجيزة. هي زوج من الحمام المعروف باسم "بايملي" ذي اللون الأزرق والعنق الطويل والرأس الإجاصي الشكل، وزوج آخر من حمام "شكالي" ذي الريش الأسود والعنق الطويل المتلألئ بألوان متماوجة، وزوج ثالث من حمام "ريحاني" ذي الوجه الملائكي والعنق الضخم الأصفر اللون.
وإن يكن الحمام هو الذي أوصل يزن إلى ألمانيا، فإن الحمام نفسه قد يضعه في سجونها! لقد حاول مراراً وتكراراً أن يوضح للمحقّق أن هدفه من التقاط الطيور من حديقة "تيليا دوريو" هو مزاوجتها وإكثارها من دون إلحاق أي أذى بها، ولم تكن غايته اصطيادها لأكلها كما ورد في الاتهام المقدّم من بلدية برلين. لقد أصبح لديه في حديقته الخلفية سرب حمام يضم نحو أربعين طائراً، وهو يحرص على صحته وغذائه وإطلاقه من حين إلى آخر كما اعتاد أن يفعل طوال حياته، وكل ذلك بهدف تمضية الوقت بانتظار العثور على فرصة عمل مناسبة.
أدرك المحقق أن من يجلس أمامه هو شخص مهووس حقاً بتربية الحمام. وبعد أن شاهد عدداً من الصور ومقاطع الفيديو التي عرضها يزن اقتنع بصدق نياته. وهكذا لم يجد بداً من مناقشة الأمر مع ممثل بلدية برلين لاقتراح الوصول إلى تسوية ترضي جميع الأطراف. وكانت التسوية المقترحة أكثر من رائعة بالنسبة إلى يزن، إذ تم الاتفاق أن يخضع لفترة عمل اختبارية لمدة ثلاثة أشهر، وفي حال نجاحه يحصل على وظيفة دائمة لدى بلدية برلين كخبير في تربية الحمام وإكثاره.
|