درست في كلية العلوم بعضاً من "العلوم الأساسية"، كالكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان. وكنت في أوقات كثيرة أجد من يسألني عن جدوى هذه العلوم. فكثير ممن لا يعلمون حقائق الأمور لا يرون فائدة مباشرة محسوسة لها، ولم يكن من السهل دائماً إقناع معظم السائلين بأن هذه العلوم هي أساس النهضة العلمية والتكنولوجية في حضارة البشر الحديثة. ولم أكن أضيف أنها تشكل عقليات دارسيها، وتعينهم على النظر بموضوعية وشمولية إلى الحياة.
إنني أستعين بأدوات العلوم لأتأمل أحوالاً وظواهر اجتماعية وسياسية، يغرق من يتناولونها في تفاصيل جدلية مستهلكة للوقت مهلكة للجهد. وقد أخضعتُ، مثلاً، ظاهرة الفساد للتأمل العلمي، واستخلصت علاقة بين هذه الظاهرة المقيتة المدمرة وظاهرة طبيعية تعرفها علوم البحار، هي الطوف الجليدي أو جبل الجليد العائم. فكلا الظاهرتين خطير، ولا يظهر منه إلاَّ جزء لا يعبر عن حجمه الحقيقي. وتتحكم في حجم الجزء الظاهر من جبل الجليد عوامل كيميائية وفيزيائية، من درجة ملوحة ودرجة حرارة وكثافة نسبية، تتفاعل جميعها لتحدد في النهاية حجم الجبل ككل، والجزء الأصغر الذي يبدو للعيان، بينما الأضخم يتخفى في ظلام الأعماق.
وألجأ أيضاً إلى علوم الحياة، كعلم النبات، وأروح أتأمل ما حولي كأنني أتفحص قطاعاً عرضياً في ساق نبات تحت المجهر. وأعتقد أن جانباً كبيراً من أزماتنا راجع إلى اجتزاء الرؤية للحوادث والتداعيات والموجودات التي تشكل المشهد الاجتماعي والسياسي العام. ويندر أن تعثر على من يعالج الأمور ولديه منظور متكامل، يشبه القطاع العرضي في ساق النبات، حيث يمكنك أن تكشف كل أنواع الأنسجة المكونة للساق النباتية، ويتحدد أمامك حجم كل نسيج ومدى حيويته، فتطمئن، أو لا تطمئن، إلى أن فيزيولوجيا النبات سليمة، فالأنسجة الجيدة تؤدي وظائفها على وجه مُرْضٍ. فإن أردتَ التركيز على نسيج بعينه في الساق، من أجل نظرة مدققة وأكثر قرباً، فعليك بالقطاع الطولي، الذي يستغني عن إظهار تفاصيل كل الأنسجة، مركزاً على نسيج أو اثنين، متتبعاً أحوالهما على نطاقٍ أكبر.
ولست متخصصاً في الإحصاء، لكن المتخصصين به قادرون على أن يلفتوا أنظارنا إلى أسرار علاقات رياضية تضيف إلى قدرتنا على تفهم علاقاتنا الاجتماعية والسياسية. ولا أخفي هنا إعجابي بعلاقة إحصائية بيانية، عرفتها أول ما عرفتها في محاضرة كيمياء خلال السنة الأولى من دراستي في كلية العلوم، حيث راح المحاضر القدير يشرح لنا أن كل الأشياء في هذا الكون يمكن إخضاعها لمنحنى اسمه "منحنى التوزيع الاعتيادي" (Normal Distribution Curve) الذي أوضح لنا عليه تفاوت سرعات جزيئات أحد الغازات. فكان عدد قليل جداً من هذه الجزيئات يمتلك أدنى سرعة ممكنة، وعدد مماثل منها يكتسب أعلى سرعة ممكنة، أما الغالبية العظمى، أو "السائمة" من الجزيئات، فتحتفظ بسرعة متوسطة. ويمكنك الاطمئنان إلى صحة ما يذهب إليه هذا المنحنى في أي عملية توزيع لصفة أو خصيصة في مجتمع ما.
|