راغدة حداد (عُمان)
سمعت حركة خارج الخيمة، وأنفاساً تقترب ثم تبعد ثم تعود. الساعة قاربت الثانية بعد منتصف الليل، أيكون النمر خارج خيمتي؟
لم تكن تلك المرة الاولى التي أخيم فيها وسط برية. لكنني، للمرة الاولى، أرقد في أرض النمر العربي، وسط جبال مسندم في سلطنة عُمان. الجميع نيام، بعد تسلّق شاق للجبل وصولاً الى كهف النمر، وسهرة استمعنا خلالها الى أحاديث أبناء المنطقة عن الحيوانات البرية التي تعيش هناك.
الحركة الغريبة لم تسكن، والأنفاس لم تخمد، وأنا قابعة بلا حراك وقلبي يكاد يقفز من داخلي. شققت سحابة الخيمة قليلاً وسلطت ضوء مصباحي الكهربائي الى الخارج، فاذا بأحد الأوتاد قد أفلت وراحت شرفة خيمتي تتطاير مع زفير الريح.
النمر العربي كان يروم تلك الجبال. لكن صديقنا سعيد السعيد أخبرنا في السهرة أن أحداً من أبناء المنطقة لم يرَ نمراً منذ نحو خمس عشرة سنة. قال: "في الماضي كان هناك مطر، وكان العشب ينمو عالياً، والظباء كثيرة تنعم بالماء والمرعى. وكانت النمور تلزم أعالي الجبال الصخرية مكتفية بالفرائس البرية". لكن سنوات متعاقبة من الجفاف أيبست المراعي وأنضبت جبوب الماء. فنفقت الظباء، ولم تعد النمور توفق في صيد طرائدها الطبيعية، وشرعت تغير على أغنام الأهالي الذين راحوا ينصبون لها الأشراك.
وهكذا اختفت النمور العربية من جبال مسندم بين عطش وجوع ووقوع في الشرك. وتحولت كهوفها زرائب للمواعز التي تلوذ بالجبال شهوراً في مواسم الحر.
من ظفار الى مسندم
النمر العربي Panthera pardus nimr هو أكبر أنواع السنوريات الباقية في شبه الجزيرة العربية. كان في الماضي يعيش في جبال عُمان واليمن والسعودية والامارات وفلسطين والأردن. وبحلول التسعينات انقرض محلياً في معظم أنحاء المنطقة، وأدرج على اللائحة الحمراء للحيوانات المهددة الى حد خطير لدى الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN).
عام 1997، بدأ مكتب مستشار حفظ البيئة في ديوان البلاط السلطاني في عُمان دراسة مسحية للنمر العربي في محمية جبل سمحان الطبيعية في اقليم ظفار، بالتعاون مع وزارة البلديات الاقليمية والبيئة وموارد المياه وبمساعدة رعيان ومرشدين محليين. فنصبت آلات تصوير فخيّة (trap cameras) في المواقع التي وجدت فيها دلائل على وجود النمر، وهي تعمل آلياً، فتقوم بالتصوير عند مرور حيوان عبر حزمة الأشعة تحت الحمراء التي تبثها. وتم إمساك عدد من النمور، وتطويقها بأطواق متصلة لاسلكياً بالأقمار الاصطناعية تحتوي على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) من أجل تتبع تحركاتها.
لقد ثبت أن النمر العربي يعيش بحرية في محمية جبل سمحان، في جنوب عُمان حيث أوضحت تحاليل من برازه أن أهم فرائسه الوعل النوبي والوبر الصخري والغزال العربي والنيص الهندي والحجل العربي الأحمر الساقين، ولم تثبت التحاليل وجود آثار أغنام.
وكانت مسندم المنطقة العُمانية التالية التي يحتمل وجود النمر فيها. الفارق هنا أن الجبال مأهولة، يسكنها نحو 30 ألف نسمة، والوضع يشبه المرتفعات الخضراء المأهولة لجبل القمر خارج منطقة جبل سمحان، حيث تأكد وجود النمر أيضاً.
يقول هادي مسلَّم الحكماني، من مكتب مستشار حفظ البيئة في ديوان البلاد السلطاني الذي يتابع ميدانياً مشروع مسح النمر العربي في عُمان: "بعدما تحققنا من أن النمر العربي لا يزال يستوطن جبال ظفار، علينا أن نعمل على خلق مجتمع يساهم معنا في برامج الصون، حيث أن مستقبل النمر العربي بيد الأهالي. فنشر الوعي في المجتمع المحلي من أولى الخطوات لنجاح عملية الصون البيئي".
عطلة ذات نكهة
وصلنا الى مسندم في منتصف شباط (فبراير) 2006 آتين براً من دبي فرأس الخيمة. ومسندم شبه جزيرة عُمانية تطل على مضيق هرمز، الذي يصل الخليج العربي بخليج عُمان والمحيط الهندي، تفصلها أراضي الامارات العربية المتحدة عن بقية سلطنة عُمان. جبالها الوعرة تنبثق من البحر في سلاسل شاهقة متراصة يصل ارتفاعها الى 2000 متر، تتعرّج بينها ممرات بحرية تتناثر فيها الجزر وقرى الصيادين. ولقد خيل الي، وأنا في رحلة على متن سفينة خشبية بين تلك الجبال لمشاهدة قطعان الدلافين اللعوبة التي تكثر هناك، أنني داخل متاهة عملاقة منحوتة في البحر.
انطلقنا من خَصَب، مركز محافظة مسندم على الساحل، الى الجبال في الداخل، حيث تطغى الصخور الجيرية والطينية الغنية بالأحافير البحرية. فتلك الأصقاع كانت تحت البحر خلال العصر الجوراسي قبل نحو 68 مليون سنة، وارتفعت طيّاتها بفعل الزلازل حين اصطدمت الصفيحة الإيرانية بالصفيحة العربية.
كنا قافلة من سيارات الدفع الرباعي، الوحيدة القادرة أن تمخر عباب تلك الطريق الحصوية الوعرة. فقد ساهمت "لاندروفر" بدعم البعثة، اذ تبين ان سياراتها مثالية على هذه الطرقات، فهي تتميز بآلية لدفع الهيكل حين تسير على الحصى، وكأنها على إسفلت.
مررنا بأودية سحيقة تلوذ بها قرى صغيرة يعيش أهلها على بعض زرع يرفد تربية الأغنام. وبعد مسيرة ساعتين في تلك القفار أطل علينا المخيم. فمقصدنا بعثة علمية تستكشف جبال مسندم منذ شهرين للوقوف على ما اذا كان النمر العربي ما زال يعيش هناك. وهذه خطوة جديدة في مساعي حماية الحياة الفطرية في عُمان وتدعيم موقعها كمقصد دولي للسياحة البيئية.
كانوا بانتظارنا، باحثون متطوعون من بلدان مختلفة، أتوا في رحلة تجمع بين العلم والمغامرة. مثل هذه الرحلاتتنظمها بيوسفير إكسبيديشنز (Biosphere Expeditions)، وهي شركة بريطانية لا تتوخى الربح تنظم بعثات حول العالم لحماية الحياة الفطرية مفتوحة للجميع. وخلافاً لرحلات التصوير أو السفاري، تجمع هذه البعثات بين زيارة الأماكن الغريبة والنائية والاحتكاك بشعوب وثقافات مختلفة، وصون حيوانات مهددة بالانقراض.
في كهف النمر
أقيم المخيم على سهل شبه دائري وسط الجبال كأنه فوهة بركان. من هناك انطلقنا لنتسلق منحدراً صخرياً شاهقاً الى كهف كانت ترتاده النمور وفق روايات الأهالي. سبع سنوات متعاقبة من الجفاف لم تترك من الغطاء الأخضر سوى شجرات متناثرة من الأكاسيا، يقضمها الماعز من أسفل الأغصان صعوداً حتى تأخذ شكل مظلة. كان التسلق خطراً، فزلة قدم على تلك الحافات الصخرية الضيقة كانت لتودي بصاحبها دحرجة الى السفح. بعد ثلاث ساعات وصلنا الى معبر هو أشبه بجسر لا بد من اجتيازه لبلوغ الكهف. هناك كانت رئيسة الفريق العلمي تيسا ماغريغور، الاختصاصية بالقطط البرية، وقائد البعثة الباحث الميداني دوم هول، قد وضعا قبل أسبوع آلة تصوير. وتبين أنها صورت ثعلبين ومواعز، لكنها لم تصوّر نمراً.
على الدرب الضيقة الى الكهف بقع ترابية متناثرة رحنا نبحث فيها عن آثار أقدام وخدوش وبقايا اقتراس، بعدما علمتنا تيسا كيف نفرق بين آثار الحيوانات المختلفة. فالنمر العربي ليس وحده ضالتنا، اذ ربما كان هناك بقية من الظباء والطهر العربي النادر، وهي فرائس النمر. الثعالب والقنفذ والنمس والأرنب والقطط البرية وأنواع من القوارض تعيش هناك أيضاً، وكذلك الوشق الذي يدعوه الأهالي "الحمراء"، وهو يفترس الماعز اذا صادفه في الجبل وكان جائعاً. ورأينا ريشاً مختلف الأشكال، فثمة طيور تتراوح من العصافير الصغيرة الى النسور الذهبية والعقبان. وتلوذ الوطاويط داخل الكهوف الغائرة في الجبال.
كان الفريق العلمي يحصي الدلائل التي قد تشير الى وجود النمر. وقد عثر في ذلك التسلق على "أدلة حسّية ربما تبشر خيراً"، كما قالت تيسا، وهي آثار أقدام وخدوش وبراز تدل على نمر. وقد أرسلت عينات البراز الى جامعة مسقط لتحليل الحمض الميني DNA الذي يكشف نوع الحيوان.
ليته يعود!
كثيرون يرون في النمر خطراً على حياة أسرهم وأغنامهم، كما كان آباؤهم وأجدادهم يفعلون. وبقاء النمر في مسندم، إذا وجد أو أعيد توطينه في المستقبل، رهن بتغيير هذا التفكير عبر تعريف الأهالي بالمنافع المادية التي يحققها لهم برنامج الصون، كتوظيفهم مراقبين للحياة الفطرية أو مرشدين للزوار والسياح البيئيين، وكذلك التنمية المتوازنة لمنطقتهم كي يبقوا ويعيشوا حياة كريمة في أرض أجدادهم.
قال لنا قاسم المرّ حين زرناه في بيته: "النمور زينة للمنطقة، جميل اذا كانت موجودة. ولا أخاف على الأغنام، لأن النمر لا ينزل من الجبال، ونحن نطعمها فلا تضطر الى التسلق عالياً لترعى من مناطق الخطر".
قاسم شاب في العشرين يقطن في قرية الروضة التي لا يتعدى سكانها الخمسين. وهو يعمل في مكتب الوالي، وتم اختياره مرشداً محلياً لفريق "بيوسفير". قال حاملاً طفلته غزلان التي لم تبلغ السنة: "سوف تذهب الى المدرسة، وبعدها الى الجامعة لتتعلم الانكليزية. من يعلم؟ قد تصبح مرشدة سياحية تساهم في حماية طبيعة هذه المنطقة".
وأخبرنا أبوه، وهو في الرابعة والخمسين، أنه لم يشاهد نمراً في حياته. لكن والده وجده كانا يرويان له قصصاً عن نمور تشاهد في الجبال عند المغرب والفجر. وكان الناس ينصبون لها أشراكاً، "أما اليوم فلا يفخخون لأي حيوان، فالصيد ممنوع بمرسوم سلطاني".
زرنا بيوتاً عديدة استقبلنا أصحابها بحفاوة وكرم. الحياة ما زالت هي هي منذ عشرات السنين. القطعان تختلط في النهار لترعى في السهل أو المنحدرات الصخرية، وفي المساء تعود كل ماعزة الى زريبتها. أخبرونا أن الحمراء ما زالت تأكل المعزى الضالة في الجبل، ولكن لا نمور في هذه الأيام. قال لنا أبو قاسم: "لم يعتدِ نمر على أي من أغنامنا منذ زمن بعيد. ونحن نميّز فعله. فهو يعمل مثل سكين، يسلخ شعر فريسته ثم يأكل لحمها، أما الحمراء فتخنق الماعز وتمتص دماءها".
وقصدنا بيت سعيد سعيد، فرأينا زوجته تطعم المواعز شعيراً. قال سعيد: "ليت النمر يعود، فهذا يحصل اذا توافر الماء والمرعى للفرائس. لم تمطر حسناً منذ سنوات، فنفقت أغنامنا، والبقية الباقية هزيلة ويشتري لها أصحابها العلف. إن شاء الله تمطر وتنفرج الحال".
وقد أمطرت فعلاً في اليوم التالي. ففي الصباح الباكر أفقنا على وقع زخّات خفيفة، وكانت الغيوم تخيم على السهل والجبال وتبشر بفيض كريم. وضبنا أمتعتنا وركبنا السيارات عائدين الى خَصَب قبل أن تقطع السيول الطريق الوحيدة. من جميل المصادفات أنها كانت المطرة الحقيقية الاولى هذا الشتاء.
كادر
كانوا في مسندم
ضم فريق "بيوسفير إكسبيديشنز" مجموعة من الباحثين عملوا بحماسة في ظروف بعيدة جداً عن رفاهية حياتهم العادية، مقيمين في ما يشبه مخيمات البدو المتنقلة، مع قاعدة ثابتة في خَصَب. وقد دفع كل منهم نفقات السفر والإقامة، اضافة الى رسم مساهمة في تكاليف البعثة العلمية. ولم يكونوا جميعهم من العلماء المتمرّسين، فمنهم سياح أرادوا تمضية عطلة يقدمون خلالها خدمة تترك أثراً.
يانس فارستات، خبير قانوني ألماني: "كنت أشعر أن عطلاتي وأسفاري بلا نكهة، مثل طبق شهي في المظهر لكنه بلا ملح وبهار. ثم قرأت مقالاً عن بعثة بيوسفير للبحث عن النمر العربي في مسندم، فانضممت اليها، وكانت أروع خبرة عشتها في حياتي. وقد تأثرت جداً بانفتاح العُمانيين وحفاوتهم، وسأعود بالتأكيد في بعثة لاحقة اذا نظمت".
ياسمين عزيز، أميركية من أصل فلسطيني، طالبة ماجستير بالعلوم والسياسات البيئية في جامعة جونز هوبكنز بولاية ماريلاند الأميركية: "سمعت عن اهتمام السلطان قابوس شخصياً بحماية البيئة ومواردها وأحيائها، وأحببت أن أزور عُمان بمهمة علمية ميدانية. الأمر مختلف في الطبيعة، حيث نعيش ما ندرس برفقة علماء متخصصين وأصدقاء من دول مختلفة، ننهل من معارفهم ونعطيهم ما لدينا".
يونا لاوف، اختصاصية بالكيمياء الصناعية من ألمانيا: "شاركتُ في بعثات سابقة لبيوسفير، وصرت متمرسة في تقفي الآثار واستخدام نظام تحديد المواقع العالمي".
روزماري ستو، مرشدة اجتماعية من بريطانيا: "زرتُ عُمان مرتين من قبل، وعشقت طبيعتها الخلابة وطيبة أهلها. وبعد تقاعدي أحببت زيارتها بهدف نبيل. ولقد اكتسبت هنا مهارات أفخر بها في العمل الميداني".
أوليفر بلوفلد، مصور تلفزيوني بريطاني يعمل في دبي: "صوّرت شريطاً وثائقياً عن جبال مسندم وسكانها وكهوف النمور وعمليات البحث عنها".