تعيش في المياه العُمانية الجنوبية الدافئة، الغنية بالمصايد والتيارات البحرية التي يوفرها المحيط على مدار العام، عدة أنواع من الحيتان، رُصد منها الحوت الأحدب وحوت العنبر والحوت القاتل وحوت القرش المرقط. وقد شوهدت هذه الأنواع بمجموعات صغيرة في خليج الشويمية، ومحيط جزر الحلانيات، وحاسك في ظفار. وهي تستقر في هذه المناطق لفترات زمنية متفاوتة، فبعضها مستوطن وبعضها يأتي من خليج موزمبيق وسواحل جنوب أفريقيا.
أشهر هذه الحيتان هو حوت العنبر، الذي دعي كذلك نظراً للمادة التي تخرج من أحشائه وتستخدم منذ أزمنة بعيدة في صناعة الطيب وفي العلاج. والحقيقة أن العنبر يستخرج أيضاً من مصادر نباتية، إذ تستخلص أنواع من المستحلبات الراتنجية من أشجار ونباتات في عدة دول، مثل الهند وإيران والسودان وكوريا ونيوزيلندا، وتستخدم في صناعة الصابون ومواد الوقاية ومرطبات الجسم والعطور. كما يصنَّع العنبر من مركَّبات كيميائية. لكن أشهر أنواعه وأفخرها هو الذي يخرج من أحشاء حوت العنبر.
حوت العنبر هو من الثدييات البحرية، ويعتقد أن أعداده لا تزيد عن 200 ألف حول العالم. ويمتاز عن بقية الحيتان بشكله الغريب، خصوصاً رأسه الضخم. وهو يعدّ أكبر الحيوانات رأساً على الإطلاق، ودماغه أضخم الأدمغة. وله أسنان في فكه الأسفل فقط، وفتحة التهوئة الوحيدة تميل إلى الجهة اليسرى من رأسه. ويبلغ طول الذكر عند البلوغ بين 15و20 متراً، ويصل وزنه في بعض الأحيان إلى 50 طناً. أما الإناث فأقل حجماً، اذ لا تتعدى 15 متراً طولاً و20 طناً وزناً. ويحتوي جلد حوت العنبر على طبقة سميكة من الزيت تتراوح بين 10 و30 سنتيمتراً.
تعيش حيتان العنبر في مجموعات عائلية، تقوم فيها الأم بدور جامع الطعام للصغار الذين لا يقدرون الغوص إلى أعماق كبيرة، بينما يبقى الذكر لحراستهم على سطح الماء. ويتغذى حوت العنبر على الحبار والأسماك، وبإمكان الحوت البالغ التهام نحو طن يومياً. وهو يغوص في الأعماق مسافة تتجاوز 3000 متر، لكن المتوسط الذي يصله بحثاً عن الحبار هو في حدود 1200 متر. ويبلغ متوسط سرعته بين 6 كيلومترات و15 كيلومتراً في الساعة.
ولا تخضع عمليات التكاثر عند حوت العنبر لموسم محدد عادة، ومدة حمل الأنثى 16 شهراً، تضع بعدها مولوداً يبلغ طوله في المتوسط أربعة أمتار ووزنه طناً. وخلال عشر ثوان من عملية الولادة يقفز إلى سطح الماء للتنفس. ويظل الصغار معتمدين على أمّاتهم لمدة تصل إلى عامين، فيتغذون على حليبها وما تطعمهم من أسماك. أما سن البلوغ عند الاناثفهو عشر سنوات، لكنه يتأخر عند الذكور إلى عمر عشرين عاماً. ويبلغ متوسط عمر حوت العنبر 45 عاماً، وقد يتجاوز بعض الحيتان السبعين.
أغلى من الذهب
ما زالت كيفية خروج العنبر من أمعاء الحوت مثار جدل. فالبعض يعتقد أن سببه مرضي، نتيجة تجمد قوام الشمع داخل الأمعاء. والبعض يقول إن حوت العنبر يتغذى على شجرة تسمى العنبر، وهذا ما يعتقده كثيرون ومنهم سكان جزر فرسان السعودية في البحر الأحمر الذين اشتهروا منذ القدم بجمع العنبر والاتجار به. لكن علماء البحار يرجحون أن حوت العنبر يفرز مادة شمعية من امعائه السفلى للتخلص من المادة السوداء في الحبار، طعامه المفضل، ويدللون على ذلك بوجود قطع من هذه الرخويات القشرية داخل العنبر الذي يعثر عليه في بعض الأماكن.
في أي حال، العنبر مادة لها قوام الشمع، رمادية أو بيضاء أو صفراء أو سوداء، وكثيراً ما تجمع أكثر من لون. وأفضل العنبر تقليدياً وتجارياً الأشهب وأردأه الأسود. وهو يحتوي على مركب الأمبيرين الذي يستخدم كمثبت للعطور الغالية الثمن.
على مر العصور، كان أهل ظفار في سلطنة عُمان يجمعون العنبر من السواحل، وليس بالبحث عنه في البحر، فالعثور عليه دائماً مصادفة. واليوم يُخدع الكثير من مرتادي البحر، كالصيادين والمتنزهين، بكتل الزفت السوداء التي تخلفها السفن وتقذف بها الأمواج إلى الساحل، فهذه المادة تشبه العنبر بلونها وقوامها.
للعنبر استخدامات متنوعة، بعضها بالتجربة والبعض نتيجة معتقدات ربما بنيت على معلومات غير دقيقة أو خرافات. فهو يستخدم لعلاج الصداع والتسمم ونزلات البرد وأوجاع الظهر والخدر والربو والشلل النصفي ولدغات الأفاعي والثعابين والعقارب ويعتبره بعض المطببين التقليديين مفيداً للمعدة والأمعاء والكبد والمثانة. وفي ظفار، يستخدم العنبر لزيادة الوزن عند الأطفال، لا سيما أولئك الذين يعانون من الهزال، كما استخدم منذ القدم لعلاج انتفاخات البطن والتخمة. وهناك من يخلط العنبر بالعسل اعتقاداً بأنه ينفع في تقوية الجسم ويزيد قوة الذكورة. وقد ذكر لي أحد التجار أن أشخاصاً جاؤوه بحثاً عن العنبر لعلاج مريض لهم بالسرطان. وأشارت دراسات غذائية الى أن إضافة العنبر ألى الزعفران يجعله مادة مقوية جنسياً، محذرة من أن تعاطيه بكثرة قد يؤدي إلى الإصابة بأعراض سلبية مثل الصداع والوهن والأرق، ويمكن أن يضر بالصحة إذا أضيف إلى الطعام بكميات كبيرة ومن دون معيار مناسب.
في السنوات الماضية، تراجعت كميات العنبر البحري الذي كان ولا يزال أغلى من الذهب ويتحدد سعره بالغرام. وفي صلالة يزنه التجار بريال ''ماريا تيريزا'' الفضي، ويعادل سعر الريال الواحد نحو 60 ريالاً (155,8 دولار) بالعملة الحالية. وقد علق أحد التجار على ذلك بقوله: '' العنبر الحقيقي الذي يأتي من البحر أصبح نادراً، والموجود لدينا لا يتعدى بضعة غرامات''، مضيفاً أن السوق الوحيدة لهذه المادة حالياً هي سوق دبي، بعدما كانت الهند في الماضي أكبر أسواق العنبر.
تجارة مع العالم القديم
بدأت العلاقات البحرية بين العرب والصينيين والهنود قبل الإسلام. لكن ازدهار الملاحة في بحر العرب جاء متأخراً، ويعود الفضل للبحارة العرب الذين اخترعوا الشراع المثلث فأصبح من الممكن الابحار في رياح عاصفة (أولاً بالإبحار عكس اتجاه الريح، ثم ومؤخر السفينة في الريح، ثم بالعدول ثانية). وبتحسين هذا الشراع أمكن القيام بالاكتشافات البحرية الكبرى. وبنيت السفن العربية في أكثر من حاضرة بحرية، مثل البصرة في العراق وصحار وصور وظفار في عُمان والشحر في اليمن. وأخذ العرب عن البحارة الهنود في كوتشي طريقة البناء من دون مسامير، وتدبيب مؤخرات السفن، وطرق تسيير الدفة. وكانت السفن العربية قادرة على الوفاء بمتطلبات التجارة البينية حتى عهود قريبة. ومن أهم السلع التي حملتها اللبان واللؤلؤ والكافور والعنبر والعاج والعقيق والحديد. وكان ميناء صحار أول محطة ترانزيت للبضائع المتجهة إلى الهند والصين.
في العصر الإسلامي زاد اهتمام العرب بالطيب، اذ كان الرسول يحث أهل بيته على استعماله، وأمر أن يجعل في جهاز السيدة فاطمة الزهراء عند زواجها من الإمام علي. وقد رُوي أنه قال: خير طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه. وعرف عن العرب استخدامهم للعنبر في التطيُّب وفتح الشهية وزيادة القدرة الجنسية وترياقاً لعدة سموم.
ما زال العنبر من العطور الفاخرة، فضلاً عن استعماله مثبتاً للعطور. ولئن حلَّت الأصناف المستخلصة من النباتات والأشجار محل العنبر الحيواني، فالثابت أن بعض أبناء ظفار ما زالوا ينقبون السواحل بحثاً عن هذه المادة الغريبة الغالية الخارجة من جوف الحيتان.