حين أنشأت الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) صندوق أوبك للتنمية الدولية عام ،1976 كان معدل سعر برميل النفط قد ارتفع الى 12 دولاراً، من 3 دولارات عام 1973. هذه السنة يحتفل الصندوق بالذكرى الثلاثين لتأسيسه، وقد قارب سعر البرميل 70 دولاراً، مرتفعاً من 28 دولاراً عام 2003، بعدما انخفض الى 9 دولارات عام 1998. واذا كان وصول سعر برميل البترول الى 70 دولاراً عام 2005 قد احتل عناوين الصحف، فإن تقديمات صندوق أوبك للتنمية الدولية الى الدول الفقيرة، التي بلغت ثمانية مليارات دولار، غالباً ما تبقى بعيدة عن الاعلام.
مع بدء تصحيح الأسعار العالمية للبترول قبل ثلاثةعقود، والزيادة المفاجئة في دخل الدول المصدرة، وهي كانت تستكمل سيطرتها على ثروتها الوطنية، فكّر رؤساء وملوك الدول الأعضاء في أوبك، خلال قمة عقدوها في الجزائر عام 1975، بتحويل جزء من الدخل لدعم تأسيس صندوق أوبك للتنمية الدولية. وكان الهدف الأساسي من الصندوق، حين أنشئ بعد سنة، تعزيز التعاون بين دول أوبك، وجميعها نامية، مع البلدان النامية الأخرى، تعبيراً عن التضامن بين بلدان الجنوب.
المدير العام لصندوق أوبك سليمان الحربش يعتبر أن الصندوق نجح خلال 30 سنة في تحقيق أهدافه، بل تعداها. وهو صاحب خبرة طويلة في الموضوع، بعد عقود قضاها في ادارة صناعة النفط، الى جانب توليه لمدة 14 عاماً منصب محافظ السعودية في منظمة أوبك، قبل أن يتسلم إدارة صندوق أوبك للتنمية الدولية عام 2003.
يقول الحربش: "حين ولدت الفكرة عام 1975 وأنشئ الصندوق لاحقاً عام 1976 كمرفق موقت، كان الهدف الأساسي مساعدة الدول النامية من غير أعضائه في سد عجز ميزان المدفوعات. وهذه مهمة مالية سهلة، مقارنة مع عمل الصندوق الحالي في تمويل المشاريع، بما يتطلبه من دراسات جدوى واشراف ورقابة. عام 1980 تقرر تحويل المرفق الى مؤسسة مالية تنموية دائمة وليس منظمة إغاثة، فأنشئ في فيينا كمنظمة حكومية دولية مستقلة. هذا كان التحول الرئيسي حيث تخطى الصندوق مهمته الأولى، فبدأ بتمويل مشاريع البنية الأساسية مثل الطرقات والمستشفيات والمدارس وشبكات المياه. وما زال هذا نشاطه الأساسي حتى اليوم".
البنى التحتية للمواصلات، خاصة الطرق والجسور، حصلت على الحصة الكبرى من قروض الصندوق الى القطاع العام (27 في المئة)، تلتها مشاريع توليد الطاقة (18 في المئة)، والزراعة (15 في المئة)، والتربية (12 في المئة)، والمياه والصرف الصحي (8 في المئة) والصحة (7 في المئة)، اضافة الى دعم مصارف التنمية الوطنية والصناعة والاتصالات. وقاربت التزامات الصندوق حتى نهاية عام 2005 ثمانية مليارات دولار.
وتتكون موارد الصندوق حالياً من مساهمات طوعية قدمتها الدول الأعضاء في أوبك، ومن الاحتياطيات التراكمية لعملياته. وبلغت تعهدات الدول الأعضاء لموارده نحو 3,5 مليارات دولار. ويتجاوز الحساب الاحتياطي للصندوق الآن 2,2 مليار دولار.
هل موارد الصندوق كافية للاستجابة للطلب؟ يقول الحربش ان الطلب على موارد الصندوق متزايد، يفوق الموجود، وهذا يعكس ضخامة المشاكل وحدة الفقر. "نحن نخدم 120 دولة نامية. يبدو أن تحقيق أهداف التنمية للألفية يتعذر بما هو موجود. لذا طلبنا الى الوزراء في الخطة العشرية العمل على استقطاب موارد جديدة، وحصلنا على تفويض بالبحث عن مصادر تمويل، حتى عن طريق الاقتراض من الأسواق المالية، خاصة لتمويل مشاريع القطاع الخاص في الدول النامية".
استفاد من مساعدات الصندوق المالية خلال 30 سنة 120 بلداً. ومعظم عملياته تغطي قروضاً طويلة الأجل لتمويل مشاريع البنية الأساسية في البلدان النامية، ولدعم ميزان المدفوعات في الدول الفقيرة. وقد التزم الصندوق حتى نهاية عام 2005 بأكثر من 1130 قرضاً لمشاريع وبرامج بنى تحتية وعمليات دعم موازين المدفوعات، تجاوزت قيمتها ستة مليارات دولار. كما قدم أكثر من 766 منحة في مجالات المساعدة الفنية والطوارئ والأبحاث والتغذية والبرامج الخاصة بلغت قيمتها نحو 350 مليون دولار.
وساهم الأعضاء من خلال صندوق أوبك بنحو 800 مليون دولار في موارد الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (ايفاد)، الذي أنشئ عام 1977 لدعم المزارعين في أفقر دول العالم وتوفير التمويل للتنمية الريفية. كما التزم بنحو 396 مليون دولار في برامج تمويل ومشاركة مع القطاع الخاص. وقد تمكن من تحقيق هذه النتائج، رغم عدم زيادة مساهمة الدول الأعضاء، عن طريق إدارة موارده الأساسية في الأسواق المالية وتجديدها مع بدء استعادة مبالغ القروض.
حين أنشئ الصندوق عام 1976 كان دخل دول أوبك من البترول يقارب 130 مليار دولار سنوياً. وفي سنة 2006، قد يتجاوز دخلها 800 مليار دولار. فهل نتوقع أن تدعم الدول الأعضاء في صندوق أوبك منظمات تنمية جديدة اليوم، مع زيادة دخلها، أو أن تضخ أموالاً جديدة في موارد الصندوق؟
يحذر الحربش من الوقوع في خدعة الأرقام: ''خلال 30 سنة تضاعف عدد سكان الدول المصدرة للبترول وحصل تضخم في أسعار جميع السلع والخدمات، فلا يمكن اعتبار فروقات السعر دخلاً صافياً، لأنه وفق الأسعار الحقيقية قد يكون ثمن برميل البترول اليوم أقل منه عام 1976، عدا عن أن معظم الزيادة تذهب كضرائب تفرضها الدول المستوردة على المستهلكين''. ويؤكد الحربش أن ظروف الدول المنتجة اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه أثناء الطفرة البترولية الأولى في السبعينات. "فالاقتصاد السعودي مثلاً فوجئ في السبعينات بموارد لم تكن لديه الطاقة الاستيعابية الداخلية لاستخدامها. لم تكن هناك مطارات وموانئ وفنادق وطرقات وشبكات كهرباء. كان هناك فائض مالي فعلي، وكان لعبارة بترو دولار معنى حقيقياً. اليوم ترزح الدول المنتجة للنفط تحت عبء دين عام داخلي وخارجي. السعودية، مثلاً، مطالبة باعادة بناء شبكات توزيع الكهرباء وصيانة الطرقات وتوسيعها وتأمين الخدمات الأساسية. ما يسمى فائض الدخل البترولي هو فائض فقط عما تم تقديره في الميزانية، وتحتاجه الدول لسد الدين العام والصيانة والتنمية الداخلية، بعدما توسعت اقتصاداتها. ولا ننسَ المصاريف والديون التي ترتبت على حربين طاحنتين في منطقة الخليج خلال السنوات الأخيرة".
ويشير الحربش الى الاستثمارات الاضافية في الدول المنتجة لتطوير حقول جديدة تؤمن الاحتياطي النفطي الاضافي المطلوب عند ازدياد الطلب. ويعطي مثلاًحقل بترول الشيبة في السعودية، حيث بلغت الكلفة 2,5 مليار دولار لتطوير انتاج 500 ألف برميل يومياً، أي 5000 دولار للبرميل الواحد. وهذا احتياطي للحاجات الطارئة فقط، يتم استخدامه إذا طلب السوق كميات إضافية، لتأمين الاستقرار.
ويرفض الحربش الربط المباشر بين أسعار النفط وموارد الصندوق، حين يذكر أنه أنشئ كمرفق موقت عام 1976، لكنه استمر كمنظمة انمائية دولية، ولم تقدم الدول الأعضاء على اغلاقه أو تجميد نشاطه، حتى حين انخفض سعر البرميل الى 9 دولارت عام 1998.
خطط الطوارئ بالتوازي مع بناء القدرات
صناديق التنمية الدولية متهمة بأنها تركّز على الاستجابة للمشاكل الطارئة ولا تعطي الاهتمام الكافي للتدريب وبناء القدرات، فيستطيع الفقير انتاج غذائه بنفسه بدل الاعتماد على مساعدات جاهزة. ماذا يفعل صندوق أوبك لمواجهة هذه الاشكالية؟ يؤكد الحربش أن برامج الصندوق متوازنة، تركز على بناء القدرات الذاتية ودعم قاعدة الانتاج. لكن برامج المساعدات الطارئة لا بد منها أيضاً. "فالتربية والتدريب مهمان، لكن الناس يموتون جوعاً ولا نستطيع حرمان الجائع من لقمة العيش الى أن نكون دربناه على زراعة القمح وانتاج الرغيف. اذا وضعنا كل اهتمامنا في التدريب وبناء القدرات وأهملنا المساعدة الطارئة، فقد يموت معظم الذين نريد مساعدتهم قبل أن نتمكن من تدريبهم. لا بد من العمل في الاتجاهين بالتوازي".
ويقدم الحربش أمثلة عن تنوع نشاطات الصندوق وعدم حصرها في حل المشاكل الطارئة: "قطاع النقل ما زال يحظى بالنسبة الرئيسية من قروض الصندوق. ومشاريع الطرقات التي ندعمها تساهم في تطوير الدورة الاقتصادية وتسهيل التواصل والتجارة. ومن الأمثلة تمويل ممرات نقل رئيسية في ساحل العاج وغامبيا وهندوراس، وطريق سريع يصل بين قيرغيزستان وأوزبكستان، وطرقات الى المناطق الريفية المعزولة في كينيا ولاوس وملاوي ورواندا. القروض الى القطاع الزراعي تهدف الى رفع مستوى الانتاجية ودعم التنمية الريفية. أما مشاريع امدادات المياه وشبكات المجارير والخدمات الصحية وانتاج الكهرباء، فهي ضرورية لمستوى حياة لائق اضافة الى أنها تدعم الدورة الانتاجية. وقد حصلت مصر على عدد من القروض بمبلغ 101 مليون دولار، من بينها ثلاثة قروض بقيمة 60 مليون دولار لاعادة تشغيل وتأهيل محطتين لتوليد الكهرباء. وتلقت بلدان كثيرة قروضاً لدعم القطاع الصحي، خاصة المستشفيات والمستوصفات في لواندا والكونغو وتركمانستان ومدغشقر وكينيا".
أما عن التعليم والتدريب وبناء القدرات، فيؤكد الحربش أنها تأخذ حصة أساسية في معظم المشاريع التي يمنحها الصندوق قروضاً، عدا عن أنها تحظى بالنسبة الكبرى من المنح. ومن الأمثلة على المنح التي قدمها الصندوق دعم إنشاء مركز للتدريب المهني في غينيا، وبرنامج في كوبا لترميم المركز التاريخي في وسط هافانا القديم، ومساعدة أكاديمية العالم الثالث للعلوم لأجل تعزيز انتاجية الأبحاث لدى العلماء في البلدان النامية.
إدارة العرض والطلب معاً
يعتبر الحربش أن أوبك مظلومة في تحميلها كامل المسؤولية عن ارتفاع الأسعار، "لأنها مسؤولة فقط عن تأمين عرض كاف للنفط. وهي تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه. انها تضخ استثمارات كبيرة في صيانة المنشآت القديمة وبناء منشآت جديدة، ناهيك عن تأمين العرض الاضافي لوقت الحاجة، وهذا مكلف جداً، لأنه يمثل استثمارات مجمدة. في المقابل، الطاقة التكريرية لدى الدول المستوردة ضعيفة ولا تفي بالحاجة، وهي غير مهيأة لتكرير الكميات الاضافية المنتجة، التي تحتوي على نسبة أعلى من الكبريت. ففي الولايات المتحدة مثلاً لم يتم بناء أية مصفاة جديدة منذ عام 1976. السعودية هي في طليعة الدو ل التي تستثمر في بناء منشآت لتأمين طاقة إنتاجية فائضة. نسمع أن الأسعار ترتفع بسبب وجود طلب متزايد على البترول، لكن ارتفاع الطلب سببه تسارع وتيرة النمو الاقتصادي، العائد أساساً الى انخفاض معدلات الفائدة. فماذا فعلت الدول المستهلكة لادارة الطلب وضبط وتيرة النمو؟ الواقع أن الدول المنتجة مسؤولة فقط عن إدارة العرض، وهي تقوم بعمل جيد في تأمين امدادات البترول وتطوير طاقة انتاجية فائضة. مهمة الدول المستهلكة، في المقابل، أن تدير الطلب على نحو جيد".
التنمية الريفية والتعليم
ماذا كان يتمنى سليمان الحربش أن يحققه الصندوق خلال 30 سنة وعجز عنه؟ يقول إن الطموح لمزيد من الانجازات لا يحدّ لمن يعرف الحجم الحقيقي لمشاكل الفقر والمرض وتحديات التنمية. "كلما جلست الى مائدة الطعام، لا أستطيع إلا أن أتذكر مئات ملايين الجياع. أكثر من مليار انسان يحصل على أقل من دولار واحد يومياً. المواطن في بوركينا فاسو مثلاً يحصل على عُشر المعدل العالمي من المياه، ويعتمد بنسبة 80 في المئة من احتياجات الطاقة على الحطب وروث الحيوانات المجفف. تذكرت حين زرت قرى في بوركينا فاسو أن سكان معظم الدول النفطية في منطقة الخليج اعتمدوا على روث الحيوانات، الذي نسميه الجلّة، كمصدر للطاقة قبل اكتشاف النفط، وقلت لنفسي: أحسن كما أحسن الله إليك، وهذا ما تفعله دولنا. حاجات التنمية في الدول الفقيرة هائلة، والصندوق يقوم بدور كبير في التصدي لها، بالتعاون مع صناديق التنمية الأخرى والمنظمات الدولية. واذا أضفنا ما قدمه صندوق أوبك الى ما تم استقطابه للمشاريع التي ساهم فيها من مصادر تمويل أخرى، يصل مجموع الأعمال مع الشركاء الى 80 مليار دولار. ما أتمناه توسيع أعمال الصندوق واستمراره في دعم البنية الأساسية والتنمية الريفية والتعليم، وفتح نافذة أكبر لدعم البحث العلمي الذي يخدم التنمية".