أين الشواطىء الذهبية والمياه التي تعج بالأسماك؟ وكيف اختفت تلك التلال الفاتنة تحت أكداس النفايات؟. مكب الصرفند في جنوب لبنان جبل نفايات آخر يتعالى على الشاطىء ملوثاً البحر والبر والهواء. وبعد ورود شكاوى كثيرة من الأهالي الى "بيئة على الخط"، الخط البيئي الساخن الذي تديره "البيئة والتنمية"، كلفت المجلة نقيب الغواصين المحترفين في لبنان والناشط البيئي محمد السارجي إجراء هذا التحقيق.
الصرفند ضيعة لبنانية تفترش ثوبها الاخضر على شواطىء البحر المتوسط، حاملة اسم إلاهة بابلية مرادفة لعشتار الكنعانية. وهي تبعد نحو 15 كيلومتراً عن صيدا أكبر مدن الجنوب اللبناني. أهميتها التاريخية في مينائها الذي كان منفذاً لطريق قديمة كانت تمر منها البضائع عبر البقاع، أو تعبرها الجيوش الى البر أو منه الى البحر. وثمة موقعان يحملان اسم "الصرفند" على شاطىء البحر المتوسط، والآخر جنوب جبل الكرمل في فلسطين المحتلة.
تتميز الصرفند بموقع جغرافي مميز. فسهلها الشاسع يخرج من عمق زرقة البحر ويمتد شمالاً وجنوباً وشرقاً بمساحة كبيرة مغطاة كلياً بأشجار الليمون والحمضيات والموز. وتختفي السهول فجأة من الجهة الشرقية لتصبح تلالاً صخرية وعرة في بعض اللأماكن، خصوصاً في الجهة الشمالية. وعلى سفوح هذه التلال تقع "الضيعة" القديمة المطلة بمناظر خلابة على السهول الخضراء والبحر الأزرق.
تميز بحر الصرفند بمياه نقية غنية بالأسماك وثمار البحر، وشواطىء رملية لا مثيل لها على طول الساحل اللبناني، كانت الملاذ الآمن لمئات السلاحف البحرية التي كانت تتدافع اليها كل سنة لتضع بيوضها تحت رمال الشاطىء الغنية بالكثبان.
كصبي ترعرع في صيدا، كنت كلما سنحت لي فرصة، أركب شاحنة والدي وأرافقه في عمله بنقل البضائع بين صيدا وصور، سالكاً الطريق الساحلية، فقط لألقي نظرة على بحر الصرفند وشاطئها. آنذاك كنت أعتقد أن رمالها من ذهب. ومنذ تلك الأيام وقعت في حب البحر. منذ تلك الأيام حلمت بأن يكون لي بيت يطل على بحر الصرفند.
وبعد أكثر من ثلاثين سنة حالفني الحظ بشراء منزل يقع على أجمل ما تبقى من شاطىء الصرفند في منطقة "الخضر". لكن الحلم بالضيعة الجميلة البريئة، الممتدة على شواطىء رملها من ذهب وهواؤها نقي ولباسها بهي ومياهها عذبة وبحرها هادىء يعج بالاسماك، ذاك الحلم رحل، وكما يبدو من دون عودة. فقد اختفت شواطىء الصرفند الذهبية كلياً، وأصاب تلوث الصرف الصحي والنفايات الصلبة قلب بحرها، وأبادت طرق الصيد العشوائية اسماكها. لكن الأفظع من كل هذا مكبّ النفايات الواقع على التلال شرق الضيعة القديمة، والذي يلوث الهواء والمياه الجوفية. وأقول، بكل حزن ولوعة، إنه بات يهدد وجود الصرفند.
"الضيعة" أصبحت شبه مدينة، نمت في كل الاتجاهات ووصلت أيام الحرب الأهلية الى "فقس الموج" غرباً. وازداد عدد سكانها ليصبح نحو 120 ألفاً، ينتجون يومياً ما يقارب 10 أطنان من النفايات المنزلية والصناعية والطبية وحتى نفايات المسالخ. في هذا الوقت يرزح لبنان كله، من شماله الى جنوبه ومن بحره الى أرزه، تحت نير كارثة النفايات الصلبة والسائلة، وفي غياب كلي للوزارات المختصة وعجز فاضح في مواجهة هذه الأزمة الخانقة وفشل مأسوي للاعلان عن مخطط توجيهي تستطيع البلديات المحلية من خلاله أن تباشر العمل والتنسيق لحل جذري.
مقبرة لا ترفض ميتاً
يعتبر رئيس جمعية "شعاع البيئة" في الصرفند المهندس سليم خليفة يعتبر أن المكب العشوائي في الصرفند "تنتج عنه مشاكل صحية وبيئية كثيرة، كونه يطال يومياً صحة المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة من هذا الداء المستعصي".
لهذا المكب تداعيات كثيرة على كل الصعد. فهو يلوث المياه الجوفية التي تعتمد عليها الصرفند كلياً للشرب، اذ ان "مياه الدولة" لم تصل بعد الى عدد كبير من منازلها. فكل منزل أو حي سكني يعتمد على بئر للشرب والاستعمال. وتلوث هذه المياه الجوفية يؤدي حتماً الى ضرر مباشر لصحة الأهالي.
وتحترق النفايات في المكب العشوائي بشكل شبه دائم، إما نتيجة احتقان غاز الميثان أو عمداً للتخلص من النفايات وتقليص حجمها. والتلوث الناتج يبث السموم في الهواء لا محالة مصيباً أهالي الضيعة. والمفجع أن المكب لا يبعد الا10 أمتار عن الثانوية الرسمية والتكميلية الرسمية، اللتين تضمان مئات التلامذة من أبناء البلدة والجوار. ولطالما أرسل هؤلاء الى بيوتهم بسبب الدخان. وعلى أقل من مئتي متر يقع مجمع نبيه بري للمعوقين، وقد اختيرت بلدة الصرفند لهذا الصرح الطبي الخيري لما تتمتع به من موقع وجمال طبيعي.
مثل كل المكبات الواقعة على جسد الوطن طولاً وعرضاً، مكب الصرفند هو كالمقبرة التي لا ترفض ميتاً، فلا يردّ شاحنة نفايات مهما كانت حمولتها ومحتواها. انه مفتوح كل ساعات النهار والليل، لا مراقب ولا محاسب، ولا رادع لأي شاحنة من أينما أتت أن ترمي بحمولتها فيه من دون أن يُسأل سائقها أي سؤال. فخلال زياراتي المتكررة الى المكب على فترة سنوات لم أشاهد أو ألاحظ أي وجود، ولو شكلي، لبلدية الصرفند. والنفايات ترمى بطريقة عشوائية، حتى على جانب الطريق الفرعية المحاذية اذا صعب الدخول الى المكب. وبالفعل، خلال جولة سريعة، يستطيع الزائر أن يشاهد مختلف أنواع النفايات مكدسة بعضها فوق بعض. فهنا النفايات المنزلية، وطبعاً لا وجود لفرز في المصدر ولا في المكب. وهناك نفايات المسالخ من أبقار وخراف ودواجن، ونفايات الورش الصناعية، ونفايات طبية، علماً أن هناك مستشفيين كبيرين في البلدة وعشرات العيادات الخاصة والمختبرات الطبية والصيدليات. ومن المؤسف أن شاحنات البلدية تدخل يومياً الى حرم المستشفيات لتفريغ ما لديها من نفايات طبية وخلطها مع النفايات الأخرى، وخاصة العضوية، ومن ثم رميها سوية في المكب، الذي هو في حالة اشتعال شبه دائمة.
والمعروف أن عملية حرق المواد البلاستيكية والنفايات الطبية تؤدي الى انتشار الغازات السامة الفتاكة، من الديوكسين وغيره من المواد العضوية المتطايرة، والمعادن الثقيلة مثل الزئبق والكادميوم والكروم. وكل هذه الغازات والمواد الكيميائية السامة تؤدي الى أمراض السرطان وتسمم الجهاز العصبي وتلحق الضرر بالدماغ والكلى والرئتين وتخلّ بالجهاز التنفسي، خصوصاً للأطفال والحوامل. ويؤكد المهندس خليفة أن "الاحصائيات الطبية أثبتت أن في الصرفند أعلى نسبة من الأمراض الخبيثة مقارنة مع البلديات المجاورة".
وعود ساذجة
لا بد من تسليط الضوء على لامبالاة بلدية الصرفند من حيث اختيار موقع المكب وتجاهلها وضعه العشوائي، خصوصاً لجهة احتراقه وانبعاث الغازات التي تسمم أجواء البلدة. ويتوجب على البلدية مراقبة عمل المكب، خصوصاً ما يتعلق بالنفايات التي تدخله والتأكد من مصدرها ونوعها، واللجوء على الأقل الى طمرها بالأتربة لتجنب تفشي الجراثيم والأوبئة، وعدم مزج النفايات الطبية بالنفايات العضوية، بانتظار حل قد يصل يوماً ما بقدرة قادر. والأهم من هذا كله العمل الجدي والدؤوب على وقف احراق النفايات في المكب فوراً، والتأكد من عدم إشعاله في المستقبل حرصاً على صحة الأهالي.
ولا بد من الايضاح أن لدى بلدة الصرفند مساحات شاسعة من الأملاك العامة، أي "المشاع". ومقر المكب الحالي هو جزء من هذا المشاع، وبالتالي فلا مشكلة كما في البلدات الأخرى لتأمين أرض يبنى فيها مركز لمعالجة النفايات، كما هي الحال في بعض القرى الجنوبية التي تفتقر الى امكانات بلدة الصرفند. ومن الضروري أن تسارع البلدية الى التنسيق الكامل مع الجمعيات والنوادي البيئية والاجتماعية والثقافية والرياضية في البلدة لوضع خطة عمل والقيام بحملات توعية للمواطنين، لجهة التخفيف من انتاج النفايات المنزلية والفرز في المصدر. ويقع على عاتقها أيضاً ايجاد تمويل، بشكل هبة محلية أو أجنبية أو عبر مشروع تجاري، لبناء مركز لمعالجة النفايات العضوية وتحويلها الى سماد طبيعي له قيمة زراعية واقتصادية. كما عليها أن تفرض على المستشفيات والمختبرات الطبية اللجوء الى حلول صحية لنفاياتها، ولا سيما الخطرة، وعدم وضعها في مستوعبات النفايات غير الطبية، كي لا تنقل في شاحنات البلدية مع النفايات العادية صبيحة كل يوم.
على بلدية الصرفند أن تتحرك سريعاً لحل هذه المشكلة التي باتت تهدد حياة المواطنين الأبرياء، وعدم انتظار الوزارات المعنية والوعود الساذجة، لأنها كما كان يردد أجدادنا "أشبه بوعود إبليس بالجنة". ويُخشى اذا انتظرت البلدية طويلاً، أن تكثر الأمراض الخبيثة وتتفشى بين الأهالي، فهذه المشكلة في اتجاه التفاقم ليس في الصرفند فحسب بل على امتداد الجسد اللبناني.