على مدى أربعة عقود مضت، بذلت مديرية ثقافة الطفل في وزارة الثقافة السورية، بالتعاون مع وزارة التربية، جهوداً كبيرة للارتقاء بمكونات الطفولة في بلادنا. وبما أن البيئة أساس التحرك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والانمائي، فان السؤال هو: كيف يمكن أن ينتفع الأطفال بموارد بلادهم؟ فالأطفال، بالمسلمات العلمية، هم الموارد البشرية التي سنعتمد عليها في انطلاق مسيرة التنمية.
يقر بعض الكتاب بأن الأطفال محاصرون بنقص الثقافة البيئية. ولأنهم مادة المستقبل ورجاله، فان التربية البيئية يجب أن تغرس في نفوسهم ما يعينهم على تخطي المراحل التعليمية المختلفة. ذلك أن التربية البيئية ميدان فسيح ينطلق منه الطفل الى اكتساب المعرفة البيئية للدخول في الفضاء البيئي الأرحب.
مسؤولية الحصار الذي يعيشه الأطفال موزعة على جهات عدة، على رأسها نظام الأسرة التي لم تكتمل لديها جوانب المعرفة البيئية بسبب حداثة الموضوع، والمؤسسة التعليمية التي قدمت ما يعين على ترسيخ الأساسيات، والمؤسسات الثقافية والاعلامية التي لها دور أساسي في ردم هوة التخلف البيئي الواقع علينا.
البيئة ميدان واسع جداً، له علاقة وثيقة بكثير من مفاصل الحياة. فهي ايمان بالشعائر والوطن، وعلم وثقافة واقتصاد وحضارة وسلوك وأخلاق وانضباط وطريقة مثلى راقية في الحياة. ان الواقع الذي نريد اللحاق به هو حراسة الأجيال القادمة، بدءاً بالطفولة، من قبل المختصين ذوي الخبرة، وهذه الحراسة تبدأ بثقافة الطفل. والتسلح بالثقافة والمعرفة البيئية هو أول الأسس التي ينطلق منها الطفل الى رحلة الحياة. لذا ينبغي تزويده بمفردات التوجيه والتجديد والابتكار وثقافة التصدي للمعوقات الاجتماعية لتذليلها لتمكين الطفولة من الارتقاء في معترك الحياة. ان البيئة ذات علاقة وثيقة بـ95 في المئة من شؤوننا.
ثقافة الطفل البيئية نوع من التعليم الذاتي بعيداً عن قيود المدرسة، ويدخل التلفزيون وتقانة الاتصالات الحديثة والنشاط غير الصفي ضمن المناهج البيئية المدرسية في تكوين أطفالنا. ويلعب التلفزيون دوراً أساسياً، باعتبار الأطفال أول مشاهديه. وتصبح ثقافة الطفل الناجمة عن ذلك منطلقاً توجيهياً في افهامه كيفية التفريق بين الصورة التي يراها، خصوصاً عند الاخرين، والواقع الذي يعيشه.
ولكي نتقصى خلفية الموضوع، لا بد من قراءة جملة من الحقائق. وجد الدكتور بلومر في دراسته لمجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالمياً أن 30 في المئة منها تتناول موضوعات جنسية و27 في المئة تتناول الجريمة و15 في المئة تدور حول الحب بمعناه الغريزي. واذا علمنا أن 98 في المئة من الأطفال يشاهدون الاعلانات بصورة منتظمة ويحفظون نص الدعاية ويسعون لتقليد ما فيها، تتضح لنا خطورة الاعلانات التي تركز على استشارة الغرائز والعنف على حساب قيم العمل والاجتهاد والفضيلة.
لا بد من اتخاذ اجراء يحصن الطفل ويسعى للانطلاق به الى تيار يؤمن بضرورة المحافظة على البيئة. فهل ندفع بمجتمعنا العربي المتمسك بالفضيلة نحو اتجاهات لا تخدم مصالح الوطن. الحملة هي من أجل حماية البيئة، وهي دعوة ونصح وتذكير بالقيم، وسعي لايجاد بدائل مفيدة للفرد والمجتمع.
ان توجهات الثقافة البيئية التي نريدها للأطفال، بأبجديتها المتعلقة بسلامة الأرض ونقاء الهواء ووفرة الماء وندرته، تلتزم بالفئات العمرية التي يخاطبها الشاعر أو الكاتب أو الفنان ضمن التقيد بالقاموس اللغوي المناسب، وتقوم على احترام حقيقي لوعي الطفل وحسه الجمالي ورغبته في الاستكشاف. على سبيل المثال، نريد شعراً يمجد البيئة المحلية عن طريق المحافظة عليها، وقصيدة تحيي العوامل البيئية المشتركة المكونة لوحدة الوطن العربي عندما نحتفل بيوم البيئة العربي. والقصص ينبغي أن تتوجه الى المنفعة الناجمة عن احترام الأبعاد البيئية وموارد الطبيعة ورفع مستوى ارتباط الطفل بتراثه وقيم أجداده، الذين حافظوا على البيئة حتى وصلت الينا سالمة ونحن نرغب أن نسلمها معافاة للأجيال المقبلة.
علينا أن نعي أن الطفل هو ثروتنا التي يمكن أن تكون مهدرة. واذا كنا لا ندرك أهميتها، فان المجتمعات الراقية أخذت بمؤشراتها ومسلماتها، وتغلب علينا أعداؤنا بالادراك والممارسة في مساحة الطفولة. فعندما يفتح جنود الاحتلال الاسرائيلي النار على أطفالنا، الذين أصبحوا عنصراً مهماً في النضال، فان هدفهم الأول هو استئصال الطفل العربي الفلسطيني. وهم لا يرغبون في ترويعهم أو تفريقهم، بل يستهدفون بتصفيتهم ايمانهم بالمستقبل، بوصفهم أفضل جيش للتنمية. هكذا تكون الاصابة في الرأس مباشرة، أي انهم يحاولون إلغاء المستقبل العربي في كل طلقة يطلقونها.
هناك أرضية صلبة مشتركة تقف عليها أجيالنا المتعاقبة ومسيرتنا الانمائية في ما يتعلق بالدور المنوط بالأطفال وطريقة الاعتماد عليهم في دعم حماية البيئة والتنمية المستدامة. الواقع يتطلب منا أن نعد للثقافة البيئية للأطفال من خلال ميثاق التعامل مع الطفل والأدبيات التي ينبغي التمسك بها والمعايير والمواصفات التي ينبغي أن تتوفر للأدب البيئي الخاص بالطفولة، ضمن نطاق الفئات العمرية من الثالثة حتى الثامنة عشرة وما يناسبها من أساليب ومصطلحات ومضامين في القصيدة والقصة والمسرحية والبرنامج الاذاعي والتلفزيوني وغيرها من الوسائل المشوقة. فهذه عناصر جوهرية لاندفاع الطفل نحو فهم البيئة وصون أبعادها وتحقيق ما تصبو اليه الأجيال من استدامتها.
السفير نعيم محمد قداح مستشار سابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.