يحرمني ذلك الجهازُ الإحساسَ المبهجَ بوقع ملامسة الهواء الطبيعي لصفحة وجهي. وهذه الحجرة المسجونة داخل مساحات الزجاج والألومنيوم تطلُّ من ثلاث جهات على البحر. أحبها، حجرة مختبري، وأقضـي فيها معظم نهاري، أعملُ وأقرأ وأكتبُ وأجالسُ أصدقائي. فلما ازدحمتْ بالأجهزة، وحلَّ بها مكيِّفُ الهواء، صارت محبساً. وصرتُ مُكرهاً على أن أقضي فيها وقتاً أطول، من دون مخالطة، مكبّاً على مراقبة مستويات التلوث، أُنصِــتُ إلى طابعة الكومبيوتر، وأحاورُ ـ من خلال دائرة إلكترونية ـ أفراداً مثلي، لم أرهم، ولا أحمل لأي منهم مودة الأصدقاء، يجلسون متناثرين على امتداد سواحل حوض البحر المتوسط، في حجرات كهذه، يرصدون أحوال هذا البحر الذي نعرفُ جميعاً أنه يحتضرُ.
أرفعُ سماعة الهاتف الداخلي، وأجدُ من يمازحني: هل يمكننا أن نقضي معك بعض الوقت في مشـرحة البحر المتوسط؟
يغادرون مختبراتهم وينزلون إليَّ. يتطلعون إلى مكتبتي، ويقرأون أسماء هوميروس، وفرجيل، وحسين فوزي، ونيكوس كازانتساكس، وأنور عبدالعليم، وألبير كامو، وناظم حكمت، وكاتب ياسين، وفديريكو غارسيا لوركا، وحنا مينا، وكونستانتين كافافي. لا يعرفونهم، ويقولون: هذه أغرب مكتبة يحويها مختبر للبيئة البحرية!
وكيف أفهمُ هذا البحر من دون هؤلاء؟
أقول لهم: وهل كان لهؤلاء أن ينبتوا، ويتميزوا، وتتألق ملكاتهم، في غير وجود هذا البحر؟
أسألهم: فكيف، يا أصدقاء، يمكن الفصلُ بين هؤلاء الأبناء وكيمياء مياهه؟
وحين يشيخ، وتنتشرُ البثورُ في جسمه، لا نستطيع أن ندَّعـي أننا ـ وحدنا ـ أطباؤه. هؤلاء عرفوه قبلنا زُرقة صافية لا شائبة فيها، وتغنوا به، أو رأوا سفنه تحمل الجندَ من شماله إلى جنوبه، أو من جنوبه إلى شماله. واحتفظوا لنا بصور غائمة لقذائف مشتعلة وسهامٍ تعرفُ طريقها إلى قلوب كل الأطراف. فهل تعتقدون أن هذه الأجهزة التي تزاحمني غرفتي تكفي وحدها لرسم دقات قلبه، وتتبع سريانَ السُّم في أحشائه؟ اشربوا شايكم، وامضوا من حيث جئتم!
شبح في الممرات
هذا النهار لم يزرني أحد. فكان الوقتُ كلُّه للعمل، حتى غابت الشمسُ، واكتشفتُ أنني لم آكل شيئاً منذ غادرتُ بيتيَ في الصباح، مُكتفياً بالمشروبات. خرجتُ من دائرة الانغماس في العمل، وأعددتُ بعض الطعام والشراب، وتركتُ المختبرَ إلى شُرفة متسعة تطلُّ على أحواض تجريب متصلة بالبحر. جلستُ في مقعدٍ مريح، أطلبُ الاسترخاءَ، آكلُ وأشربُ.
لم أحصلْ على الراحة المرجوة. لم يكن الهواءُ لطيفاً. كان ساكناً، وعبئاً ثقيلاً على صدري. لم تكن أصوات تلاطم الأمواج الصغيرة وتصارعها عند فتحات الأحواض واضحة. وكنتُ أفتقدُ تلك الأصوات الفضية الهامسة، التي تخاطب فينا ذكرى تقلبنا في مياه أرحام أمهاتنا. أصوات تدغدغ أطراف الأعصاب فترخيها. وكان من السهل اكتشافُ هذا التغير الطارئ الخبيث. ولكني بقيتُ، لدقائق طويلة، يتعاظمُ في داخلي إحساسٌ بأن ذلك ليس كل شيء، وأن ثمة خللاً يكمن هنا أو هناك، ربما يكون مدفوناً عند القاع، يُسرِّبُ تلك القلقلة التي تصـبُّ في القلب ضيقاً.
لمحتُ شبحاً يتجولُ في الممرات بين أحواض التجارب، يميزه طول جسمه وانحناءته. صحتُ: «يا عم فلفـل». توقف. استدار، ورفع رأسه. سألتُه: «ماذا تفعل عندك؟» لم يُجبْ. إنسحبَ مختفياً عن عينيَّ. وكما توقعتُ، سمعتُ خطواته البطيئة إلى الخلف مني. جاء ينعى إليَّ، بصوته الواهن: «الجوُّ مخنوقٌ والبحرُ عال». قلتُ: «ماذا تعني؟ لا أرى موجاً!» أضاف، كأنه لم يسمعني: «الأسماكُ تتقافزُ هاربة!» وصمتَ قليلاًً، ليرفعَ عينيه إلى السماء: «وانظر! هل صادفت ليلاً أصفر من قبل؟»
واهتزَّ يغادرني، تزحفُ قدماه على الأرض، وبي ميلٌ شديدٌ لاستبقائه. غير أنني تركتُه يبتعدُ، مستسلماً لدهشة كبيرة أثارتها كلماتُه. لاحظتُ ثقل نطقه، وكان حزنُه واضحاً وغريباً عليه، هو الدائم الابتسام، في إقبال على الحياة، أو غير مكترث بها وقد تهيأ لمغادرتها وتهيأت لمغادرته. وهو الصامتُ غالباً، يكادُ لا يردُّ تحية. ثم يأتي الآن وينطق أمامي بكلمات كالشعر. كأنه صعد إليَّ برسالة، ألقاها بين يديَّ وانصرفَ.
هذا العجوز فلفل! كان ينبغي أن يتمهل، وأنا مُنهك إلى حد أنني أكسُلُ عن محاولة اللحاق به وإعادته ليجالسني في الشرفة.
تأكد لي احتياجي إلى فلفل، ودفعني ذلك إلى أن أجد القدرة على رفع صوتي، صائحاً باسمه. تردد رجعُ صدى صياحي في المكان. ثم، فجأةً، تدفقتْ أصواتٌ عاليةٌ قضتْ على أي أملٍ في أن يسمعني فلفل فيأتي إليَّ. أصواتُ آلات نفخٍ ونحاسيات، وإيقاعٍ أجشّ متسارع، وصراخ بشر. كهرباء تغرق أذنيَّ، تدفعني لأسقط في حلزونٍ معدني. فجأةً، لاح فلفل أمام مقعدي. صحت فيه حانقاً: «بُـحَّ صوتي من النداء عليك». قال: «يجبُ أن نغادرَ المبنى». عدتُ أصيحُ: «أنا وحدي الذي أقررُ متى أتركُ مختبري. افتح لي بابَ الاستراحة حالاً، لأغفو قليلاً».
عاد يُصِرُّ على مغادرة المبنى. إستمر صياحي: «وما هذه الأصوات المنفِّـرة؟ هل عُدتَ تؤجِّـرُ المكان للداعرين؟» قال: «إنهم يتقاطرون... حشودٌ لم تر عيناي مثلها !» تصاعد غضبي: «عمَّ تتحدث؟» رفع يديه مستسلماً: «أحاطوا بالمبنى، واقتحموا عليَّ البوابة!» مددتُ يدي أجذبه. تباعد قائلاً: «ليس الذنبُ ذنبي. إنهم يفترشون الطرقات والسلالم. سوف تراهم. سيجيئون إليك. لا تخف. إنهم مسالمون!»
أعانني على الوقوف، وقادني لأطل على أحواض التجارب. قال: «انظر، المساخيط يملأون الأحواض!»
لم يكن يُخرِّف. كان الضوءُ الأصفرُ الباهتُ يحيط بأجسامهم غير المستقرة في الأحواض، وعلى الممرات، وفي المساحة المنظورة حول المبنى، يغطون مساحات كبيرة من المياه، يطفون في شبه سكون.
هذا زمان الماء
قبل كل شيء، يجبُ أن أتماسكَ وأُسرع إلى الشبكة الإلكترونية، أبثُّ ما رصدته عيناي. التفتُّ طالباً مساعدة فلفل. كان قد اختفى. نجحتُ بصعوبة في التشبث بمقعدي، وقد تخاذلت ساقاي. ارتطمتُ بالمقعد جالساً. سمعتُ صوت فلفل خلفي يقول: «هذا هو ...» وقبل أن أتهيأ للالتفات إليه، وجدتهم يحيطون بي. لم تُخفني هيئاتهم. لا أدَّعي الشجاعة، ولكن نوعاً من الشعور بالتعاطف والألفة كان يتسربُ ليملأ الفجوات بيني وبينهم. بل إنني لم آخذ في تأمل أنصافهم السفلية بدرجة كبيرة من الإنكار والدهشة، ربما بشيء من الانبهار الذي كان يتوفرُ لي في زمن مضى، وأنا أحاول في كراسة الرسم المدرسية تقليدَ أشكالهم، التي كان عمي الصغير يحترفُ رسمها على واجهات البيوت في مواسم الحج.
سمعتُ صوتاً يقول: «أنت المشاركُ الوطني في خطة مراقبة أحوال البحر المتوسط...» لم يكن يسأل بقدر ما كان يؤكد. لم يكن صوتاً لأحدهم، أو للمجموعة معاً، بل لعلهم لم تتحرك لهم شفاه. ومع ذلك، أجبتُ: «هو أنا». عادت أذناي تسمعان الصوتَ: «أغلقْ ملفَّ الخطة. انتهى كلُّ شيء. لا أمل». صحتُ مفجوعاً: «هل حدث... ؟»
همهموا. كان صدري يتصدَّعُ، ووجدتني بحاجة إلى دموع. قلتُ: «كنتُ أحاول التماسُك وأنا أراه يموت!» سألوا: «عمَّن تتكلم؟» قلتُ: «بحرنا... المتوسط !» تضاحكوا: «بحرنا؟ بحرنا؟ أي متوسط؟»
وصمتوا، ينتظرون ردي، وأنا ألتقطُ إشارات غريبة، وأشمُّ في إحاطتهم بي قلقاً وريبة. وكانوا ينسحبون، ويقفزون إلى الماء عبر شرفة مختبري، في حين تقدم مني فلفل. كان يرجوني: «الماءُ يرتفعُ يا دكتور، أنجُ بنفسك !»
أضحكني أن رأيتُ القشورَ تغطي نصفه الأسفل. وقلتُ له: «كيف ستقود، وأنت بهذه الهيئة، طالبي المتعة في الردهات الليلية؟»
كان يبدو صادقاً وهو يتراجعُ إلى سور الشرفة، قائلاً: «لقد أديتُ واجبي وحذرتك. هذا زمانُ الماء!»
وكنت، حقاً، أرى الماء يرتفعُ، والأرضَ تُسرِعُ إلى نهايتها، وأنا لا أرغبُ، ولا أرضى، ببديل عن أطرافي أو عن رئتين لا تكفان عن العمل. وأنا أرى خيوطَ التلاعب، وأنني أُدفعُ إلى جحيم من الهلعِ، لأستسلمَ في النهاية إلى حياة الماء.
حسناً، لتذهب المياهُ إلى ذُرى الجبال ـ كان هـذا صياحي، بعد اختفـاء آخر الهاربين إلى الماء ـ فسأبقى، وحدي، آخر المؤمنين باليابس، مكتفياً بطوفٍ صغير يحتفظ بصفحة وجهي في صخب الشمس والهواء. طوفٌ من أوراق وأحبار تسكنُ ركناً من حجرة مختبري. رأوه وسخروا منه. أراه يتهادى إليَّ، وأسمعُ همسَه الرفيق: «لتهدأ نفسُك، لا تخف». فتهدأ نفسي، ويتسرب منها القلقُ إلى الماء الزاحف مرتفعاً إلى مستوى كتفيّ، ويهتزُّ جسدي، وأرى لحظة النجاة...