اجتمع أكثر من 800 مشارك من أنحاء العالم في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية النابضة بالحياة، لحضور المؤتمر السنوي للاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين (FIDIC) في أيلول (سبتمبر) الماضي.
شكل المؤتمر دعوة مفتوحة الى محترفي هذا القطاع في 67 بلداً لمناقشة موضوع هذه السنة: «بعد الأخضر: نموذج جديد». وكان التركيز بشكل خاص على إنجازات قطاع الهندسة ومساهماته المطلوبة في التنمية المستدامة. وتعتبر التحديات العالمية المشتركة، مثل الأزمة الاقتصادية وتغير المناخ وندرة الموارد، من المحركات الرئيسية للتنمية المستدامة، ولا يقل عنها أهمية قطاع البنية التحتية الذي يشكل قوام الصناعة الهندسية الاستشارية في أنحاء العالم.
وقد أكد المؤتمر على التحديات والفرص التي تواجه القطاع الهندسي في هذا السياق، ونجح في إيصال صوت الجهات العاملة على رفع المعيار العالمي لتطوير البنية التحتية. وعلى رغم تنوع الثقافات والخلفيات والخبرات الممثلة في المؤتمر، كانت الرسالة الأساسية واضحة: سوف تؤدي الاستدامة دوراً هاماً في تعزيز الأولويات والاستثمارات العالمية في البنية التحتية، وعلى القطاع الهندسي، بكل أطياف الجهات النافذة العامة والخاصة، العمل معاً لتحقيق هذا النموذج الجديد.
الدرس الكوري
كانت استضافة المؤتمر هذه السنة تليق فعلاً بكوريا الجنوبية، فقد أتاحت للمشاركين فرصة الاطلاع مباشرة على الأهداف الطموحة للبلاد ونجاحها في تطوير اقتصاد أخضر. وافتُتح المؤتمر بكلمة رئيسية ألقاها الدكتور سوجيل يونغ، رئيس اللجنة الرئاسية للنمو الأخضر في كوريا (كم فريق عمل رفيع المستوى يعمل على النمو الأخضر في العالم العربي حالياً؟)
لقد انطلقت عجلات النمو الأخضر في كوريا عندما أعلن الرئيس لي ميونغ باك عام 2008 شعار «كربون منخفض، نمو أخضر» نموذجاً جديداً للتنمية في البلاد. وبعد أربع سنوات فقط، باتت كوريا تفاخر الآن بقائمة إنجازات مثيرة للإعجاب مبنية على الاستراتيجية الوطنية للنمو الأخضر والخطة الخمسية (2009 _ 2013).
تدفع هذا النجاح أهداف طموحة، كأن تتبوأ كوريا المرتبة السابعة عالمياً في الاقتصاد الأخضر بحلول سنة 2020. ويبدو أنها في طريقها الى تحقيق هذا الهدف، فهي الآن ثاني أكبر منتج لأجهزة الإضاءة العالية الكفاءة في اقتصـاد الطاقة (LED)، ورائـدة في إنتاج الطاقة بواسطة حركة المد والجزر. وبالاضافة الى نجاحات كثيرة على الصعيد التكنولوجي، شهدت البلاد نمواًكبيراً في استثمارات الطاقة المتجددة، واستخداماً واسع النطاق للأجهزة الكهربائية المقتصدة بالطاقة، وانتشاراً للمباني الخضراء، ورواجاً للنقل العام، وتحسناً في القدرة على التكيّف مع تغيّر المناخ، ووعياً جماهيرياً يتجلى في استخدام أوسع للدراجات الهوائية والسيارات الهجينة (هايبريد) وتقليل إنتاج النفايات وتبني إجراءات الاقتصاد بالطاقة. وأنشأت كوريا المعهد العالمي للنمو الأخضر (GGGI) الذي بات منبراً معرفياً عالمياً للنمو الأخضر يشارك فيه 21 بلداً بينها قطر والامارات العربية المتحدة.
هناك الكثير مما نتعلمه من مسيرة النمو الأخضر في كوريا. فالالتزام الصارم للقطاعين العام والخاص، والتعاون عبر القطاعات، هما مصدر إلهام بكل المقاييس.
البنية التحتية المستدامة
من الإضافات الهامة للمؤتمر إطلاق التقرير السنوي للوضع العالمي لسنة 2012 (StateoftheWorldReport)، الصادر عن الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين, وموضوعه هذه السنة البنية التحتية المستدامة. وهو يتضمن عبراً هامة، باعتبار أن لدى المهندسين الاستشاريين أدوات وقدرات لتصميم وتنفيذ المشـاريع المستدامة، لكن العامل الـرئيسي هو الدمج المبكـر لمبـادئ الاستدامـة في دورة حيـاة المشـروع.
وتحدث المؤلف الرئيسي للتقرير، البروفسور بيتر غوثري من جامعة كامبريدج في بريطانيا، عن هرمية صنع القرار المتعلق بالاستدامة في المراحل الرئيسية لعملية تطوير المشروع: بدءاً بمرحلة التصور، مروراً بمراحل التصميم والانشاء والتشغيل، وحتى نهاية حياة المشروع. وقُدمت عملية تصميم وتنفيذ الميدان الأولمبي في لندن كقصة نجاح، جسدتها قرارات راعت الاستدامة منذ مرحلة مبكرة وطوال حياة المشروع وحتى اليوم بعد انتهاء المباريات.
يتصدى التقرير لبعض الاعتقادات الخاطئة بشأن التحول الى التصميم المستدام، بما في ذلك أوهام ازدياد النفقات والأخطار. ويبين أن التخطيط المبكر للاستدامة يمكن أن يخفف التكاليف الجارية غير الضرورية للمشروع ويحسن قدرة التكيّف مع التغيّرات الطارئة. ويقدم نظرة عامة على أدوات دعم القرار ونظم المعايرة والحسابات والخطوط التوجيهية المتعلقة بالاستدامة، مع التأكيد على ضرورة النظر بتأن في الظروف المحلية وتطبيق نظم المعايرة بحذر لكي تكون النتائج مفيدة وشاملة. ونوقشت مواضيع التقرير في جلسات المؤتمر.
لقد تم تناول مفاهيم النمو الأخضر والاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة على نطاق واسع خلال السنوات الأخيرة. وخلال مؤتمر الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين الذي دام ثلاثة أيام تم تسليط الضوء على هذه القضايا بالتطرق للنمو الأخضر من ثلاث زوايا، هي: التحديات، والفرص المتاحة، وتحويل النموذج الدارج. ولُخصت النتائج الرئيسية بثلاث كلمات من الجلسة الختامية: الابتكار والإلهام والحافز، ما يشير بالترتيب الى الدور الذي يجب أن يؤديه المهندسون في ابتكار الحلول، والاستلهام الناتج من تعاضد الجهات المعنية، وتقديم الحوافز الفعالة الناتجة من التزامات القطاعين العام والخاص.
من بين 67 بلداً تمثلت في المؤتمر، قدم العالم العربي مشاركين من مصر والمغرب ولبنان والسعودية والسودان والأردن والإمارات. وأغنى أمين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية نجيب صعب عروض الجلسة العامة الثانية بعرض تمهيدي لتقرير البصمة البيئية العربية الذي سيتم إطلاقه في بيروت خلال المؤتمر السنوي للمنتدى في 29 _ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي. وعلى رغم سوء الأوضاع في بعض البلدان العربية، أشار صعب الى تطورات خضراء إيجابية في المنطقة، والحاجة الى إرادة سياسية جدية للحفاظ على مثل هذه المبادرات وتطويرها.
وعرض منصف زياني، رئيس اتحاد المهندسين الاستشاريين في المغرب، أحدث مشاريع النمو الأخضر في بلاده، خصوصاً في مجال توليد الطاقة المتجددة.
وكان لمندوبين من الأردن صوت في المؤتمر. وقد شاركتُ شخصياً في جلسة حول تغير المناخ والاستدامة، بالتركيز على الدور الذي يمكن أن يؤديه المهندسون الاستشاريون في مشاريع تخفيف تأثيرات تغير المناخ والتكيف معها، مع تقديم دراسة حالة من الأردن. وقام مشاركون شباب من شركة «أرابتك جردانه» الاستشارية التي تتخذ الأردن مقراً لها بتسليط الضوء على أهمية انخراط المرأة في القطاع. أما بشر جردانة، المدير التنفيذي للشركة وعضو اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين، فدعا المندوبين إلى دعم الأردن في استضافة المؤتمر العالمي للاتحاد سنة 2015. ويؤمل أن يجتذب المؤتمر مشاركات جهات إقليمية فاعلة، ويسلط الضوء على الامتياز الهندسي في العالم العربي.
عسى أن تكون المنطقة في ذلك الوقت قد حسنت بصمتها البيئية وحققت نجاحات خضراء... على طريقة سيول.
شدى الشريف رئيسة قسم الاستدامة في شركة «أرابتك جردانه» الاستشارية في الأردن.