Friday 22 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
كتاب الطبيعة
 
البحث عن سواحل دلمون  
أيلول (سبتمبر) 2006 / عدد 102
 سامي عباس (المنامة)
تقول الاسطورة انه عندما قرر رب الحكمة السومري "إنكي" مصير سومر والبلدان المجاورة حصلت بلاد ملوها (ساحل بلوشستان ووادي السند) ودلمون (البحرين) على مكانة مرموقة وثروات طائلة: "دعوا بلاد ماجان (عمان أو سواحل ماران الايرانية) ودلمون تصل إليّ، أنا إنكي. دعوا المرافئ تستعد لاستقبال سفن دلمون. دعوا سفن ماجان تصل الى الأفق. دعوا سفن ملوها تنقل الذهب والفضة". وقام إنكي بتنظيف بلاد دلمون، وجعل لها مستنقعات لكي يؤكل سمكها، وملأ أراضيها بالنخيل.
تظهر النصوص السومرية أن دلمون كانت ميناء للتجارة العابرة، وارتبط اسمها بالبحر. وكانت تتميز بوفرة مصادر مياهها العذبة حتى انها سميت لاحقاً "البحرين" أي بحر عذب وبحر مالح.
"البحر حياتنا" كان الشعار الذي اخترناه للحملة الوطنية لحماية السواحل سنة 2006. لم تكن هذه رحلتنا الأولى في جمعية البحرين للبيئة حول سواحل بلادنا. ففي أيلول (سبتمبر) 1994 قطعنا ما يربو على 100 كيلومتر، من ساحل المالكية غرب جزيرة البحرين مروراً بالسواحل الشرقية والشمالية وعودة الى نقطة البداية. منذ ذلك الوقت شهدت سواحل البحرين تغيراً ملحوظاً، سواء من حيث تقلص مساحتها أو نوعية الاستخدام. ازدادت عمليات الردم بوتيرة فظيعة، وحال استملاك السواحل دون وصول الناس الى الشاطئ، ما خلا بعض المنافذ الضيقة هنا وهناك.
 رهان على الوقت
بدأت الرحلة في الساعة الثالثة بعد الظهر، حيث حرارة شمس الصيف تخففها نسمات البحر. كان الساحل خالياً من أهالي قرية عسكر في الجنوب الشرقي من الجزيرة، الا من قوارب الصيادين التي تتمايل سكرانة في عرض البحر. لم يبق من ساحل عسكر الرملي سوى مساحة بسيطة، فقد قطعت المصانع والورش أوصاله، واختلط دخانها بأشعة الشمس الصفراء، وفقد البحر صفاءه بفعل المخلفات التي تطرحها في مياهه.
انقسم المشاركون الى مجموعتين، لتتجه الأولى نحو القرى المطلة على الضفة الغربية من خليج توبلي، التي أصبحت بعيدة عن البحر بفعل استملاك السواحل وردمها بحيث أصبح من العسير على الأهالي الوصول الى الشاطئ. ففي قرية سند مثلاً عليك أن تمر عبر دهليز ضيق تصل في نهايته الى بقايا ساحل ملأته عمليات البناء أنقاضاً.
كان خليج توبلي يعد المصدر الرئيسي للأسماك وموئل الكثير من القشريات كالروبيان، نظراً لكونه أكبر مستوطنة لأشجار المنغروف (القرم) في البلاد. ولا تزال بعض الطيور المهاجرة تحج اليه رغم ردم أجزاء واسعة منه، بحيث تقلصت مساحة الخليج من 28 كيلومتراً مربعاً الى 10 كيلومترات أو أقل. وقد صدر من أجل حمايته أكثر من مرسوم وقانون، لكن التشريعات لم تستطع الوقوف في وجه جشع المستثمرين وسوء ادارة هذا الموقع الحيوي. فصار أشبه بمكب للنفايات، تقع على ضفافه المحطة الكبيرة والوحيدة لمعالجة مياه الصرف الصحي، فضلاً عن مصانع أخرى للاسمنت وغسل الرمال والورش الصناعية.
على الضفة الشرقية سار الفريق الثاني نحو ساحل المعامير، الامتداد الجنوبي لخليج توبلي الذي يصله بمياه الخليج العربي. لكن هذا الممر لم يسلم أيضاً، فقد حول مصنع لغسل الرمال قسماً كبيراً من الساحل الى بحيرة من الوحل، وباتت الجهة المقابلة ملك شركة كبرى للبتروكيماويات. ولا تزال أعمال الردم مستمرة لتعزل الساحل شيئاً فشيئاً عن الناس.
واصل الفريق رحلته وصولاً الى سترة، احدى كبريات جزر أرخبيل البحرين البالغ عددها 32 جزيرة. في قرية سفالة بدا الناس عاجزين عن فعل أي شيء إزاء ما يطال ساحلهم من عمليات الردم والدفان. لكن الأمر كان مختلفاً في القرية المجاورة "المهزة"، حيث تجمع البحارة العائدون من البحر وقد أنزلوا ما رزقوا من أسماك، وبمجرد معرفتهم أننا من جمعية بيئية أخذ كل منهم يعبر عن رفضه لما يجري على الساحل من انتهاكات. قال أبو فتحي، وهو في العقد الخامس ويداوم مع البحارة على حراسة الساحل منذ تعرضه قبل أشهر لمحاولات ردم بحجة أنه على أملاك خاصة: "لقد أحبطنا محاولة استملاك الساحل من قبل أحد المتنفذين، وأوقفنا عمليات الردم. وقع معظم الأهالي القرية عريضة تطالب باستملاك القرية للساحل ووقف أية عملية لمصادرته، ونحن مستمرون في التواصل مع المسؤولين في الحكومة والجهات المعنية".
هنا تدخل أحد البحارة، وهو شاب في العشرينات، قائلاً بنبرة طغت عليها العاطفة والحماسة: "ارتبطنا بهذا البحر منذ صغرنا، وأعتقد أن الجهات المعنية تتملص من المسؤولية، وهي لا تريد التجاوب معنا بل تراهن على الوقت حتى نيأس".
 حذارِ الغزّالة!
في فجر اليوم الثاني عرَّجنا على مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة في العاصمة المنامة، لاسداء الشكر على الجهود التي يبذلها المكتب محلياً واقليمياً. وبعد هذه المحطة توجهنا عبر جسر الشيخ خليفة الذي افتتح حديثاً لنصل الى جزيرة المحرّق، وهي ثاني أكبر جزر البحرين وتقع الى الشمال من الجزيرة الأم. (كان المحرّق أحد ملوك الحيرة الذين حكموا المنطقة قبل الاسلام واشتهر عنه انه كان يتخلص من خصومه السياسيين بإحراقهم). أخذنا الجسر الى ساحل رملي هو الوحيد المتبقي من شواطئ الجزيرة، وهو كساحل قرية المعامير ملك لشركة خاصة، لكنها أتاحت للجمهور استخدامه كمتنزه، غير أنه يعاني من مشكلة المخلفات التي يرميها المرتادون.
وعلى ساحل حالة السلطة وحالة النعيم ("الحالة" تطلق محلياً على الجزيرة ذات السطح الرملي البارزة على سطح البحر)، عرض لنا رئيس المجلس البلدي لجزيرة المحرق المساعي التي بذلها الأهالي حتى حصولهم على وعد من ملك البحرين بالمحافظة على الحالتين وايقاف أعمال الردم التي كادت تذهب بمعالم الحالتين لتصلهما بجزيرة المحرق. ولكن لا يبدو الناس هنا مستائين من عمليات الردم، لأنها سمحت لهم بالبقاء على الحالة وزادت من مساحتها مما سمح لهم ببناء بيوتهم عليها.
توجهنا الى قرية قلالي خلف مطار البحرين الدولي الى الشمال الشرقي من جزيرة المحرق. أخذنا نبحث عن ساحل القرية الذي كان قبل أربع سنوات جاراً لبيوتها. فوجدنا قوارب الصيد وذلك الكوخ الخشبي، لكننا لم نجد البحر. أمام الكوخ جلس الرجل العجوز كأنه يستمع الى همسات الموج البعيدة، لكن البحر كان صامتاً، فقد أبعدته المشاريع الانشائية وخنقت هدير أمواجه أكبر الجزر الاصطناعية التي تشيد اليوم في الجزء الشمالي من مياه البحرين الاقليمية. حاولنا عبثاً أن نخرج الرجل العجوز من صمته. وقد أخبرنا أحد البحارة أنه كان في الماضي "طواشاً" يشتري اللؤلؤ من البحارة ويبيعه الى التجار، وأنه يرفض الحديث عن البحر.
على الطريق التي سلكناها الى القرية المجاورة سماهيج، بلغنا ساحلاً ترامت على رماله الرمادية قوارب خشبية كأنها في حالة احتضار. كان المشهد جنائزياً: رمال تستخرج من قاع البحر ليدفن بها الساحل. وأخبرنا أحد أبناء القرية عن حصان غاص في هذا الوحل قبل اسبوعين حين كانت الرمال لا تزال لينة. وهو وأبناء قريته قلقون مما يحدث.
ابتعدنا عن الساحل والقوارب المحتضرة ووجهتنا قرية الدير المجاورة، حيث أخبرنا الصيادون عن خطر "الغزّالة"، أي الصيد بالجرافات، فقد تسببت في تحطيم الكثير من الفشوت والشعاب المرجانية التي كانت تمثل موئلاً هاماً للأسماك. وطالبوا بوقف هذه الطريقة في الصيد لما تلحقه من أضرار بالبيئة والبحارة.
لم تعد قرية البسيتين المجاورة مزدانة بالبساتين، فقد اختفت أشجار النخيل وهجرت بيوت العصافير واستبدل بساط الأعشاب الخضراء بطرق الاسفلت السوداء. ولم نشاهد القوارب التي كانت في الماضي تجثم مزهوة على الشاطئ ويركنها الصيادون أمام منازلهم كشاهد على تمسكهم بالبحر.
 هذا الساحل لنا
في اليوم الأخير انطلقنا في سباق مع الشمس قبل أن تعتلي صهوة السماء، لنعبر الشارع السريع الذي كان يوماً ما بحراً يحرس جزيرة دلمون. قبل عقود كانت المنطقة مزدانة بالنخيل الذي وجد دائماً واقفاً قرب البحر.
منظران غاية في التناقض: شباب يعلو صدورهم شعار "البحر حياتنا" ويحملون علم البحرين وشعار برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وفي خلفية الصورة آلات حفر تدفن الساحل لتنشئ جزراً اصطناعية.
كنا نتمنى أن يطول بنا الطريق الذي سلكناه بين المزارع والبساتين الخضراء المطلة على البحر، والتي تعاني من كون سواحلها رهن الأملاك الخاصة ولا تتعدى الفسحات المخصصة للناس في بعضها بضع عشرات من الأمتار، وقد تعرضت هذه الرقع الصغيرة أيضاً للردم. غير أن قرية باربار المجاورة كان لها شأن آخر، فقد استطاع أبناؤها من خلال تكاتفهم حماية جزء كبير من الساحل، الذي احتفظ بطابعه التقليدي كساحل بحريني. وقد شكلت في باربار أول حركة نضال من أجل البيئة ارتكزت على الدعم الشعبي المادي والمعنوي.
عند ساحل أبو صبح، الواجهة الشمالية لقرية الدراز المجاورة لباربار، تجمعت عشرات العائلات لقضاء نهار الخميس تحت المظلات وأشجار النخيل والكاربس، التي مثلت سوراً خارجياً للمتنزه المطل على البحر. وأذكر أننا قبل سنتين كنا قد ساهمنا في تشجير الساحل، لذا انتابنا شعور بالغبطة ونحن نرى البسمة على شفاه الناس هناك. كما أن ساحل قرية البديع القريب لقي عناية من الجهات الرسمية، فأنشئ على ضفافه أحد المرافئ الحديثة في البحرين، وهو مزود بخزائن يحفظ فيها الصيادون متاعهم وأدواتهم على البر، ومواقف للقوارب.
يممنا شطر ساحل دمستان الذي يبعد 20 كيلومتراً. كانت هذه المسافة من السواحل قابعة خلف أسوار الأملاك الخاصة. وأكاد أجزم ان آخر قدم لصياد بسيط لامست هذه السواحل ربما تعود الى أكثر من 20 سنة، عدا ساحل دمستان الذي يدعي أحد المتنفذين ملكيته، مما حدا الأهالي الى تشجيره الذي صادف يوم مرورنا. فترجلنا عن الدراجات وساعدنا في أعمال حفر القنوات ومد الانابيب وغرس الشجيرات.
وعلى ساحل المالكية، حيث محطتنا الأخيرة، تجمع الأهالي بكثافة كعادتهم عصر كل يوم جمعة، وكأنهم يريدون القول ان هذا الساحل هو لنا ورثناه من أجدادنا. لكن هذا الساحل هو أيضاً مهدد بالزوال كملكية لاحدى الشخصيات النافذة.
الصور: سعيد منصور
ردم البحر لبناء جزر  ـ لؤلؤة البحرين
نقش أثري لرب الحكمة السومري  ـ إنكي
عضو في جمعية البحرين للبيئة يأخذ افادة أحد السكان المحليين
أعمال الردم تكتسح مناطق غابات المنغروف  ـ  القرم
الصيادين في مرفأ أقامه أهالي جزيرة المحرق
مقبرة قوارب على ساحل سماهيج
مشاركون في الحملة أمام مكتب برنامج الأمم المتحدة للبيئة في المنامة ومعهم المدير الاقليمي الدكتور حبيب الهبر
أعمال الردم على ساحل مدينة الحدّ
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.