تواجه البيئة في أعقاب انتهاء النزاعات المسلحة تحديات جمة تختلف في طبيعتها، ومن ثم اسلوب معالجتها، عن التحديات التي تواجهها بيئة قد تعاني من تراجع الا أنها لم تكن مسرحاً لنزاعات مسلحة. تتمثل هذه التحديات في وضع وتنفيذ خطط تنموية لاعادة عناصر البيئة الى ما كانت عليه قبل نشوب النزاع. وتبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية من خلال تنمية عناصر البيئة وصولاً الى إدامتها واتاحتها أمام الأجيال القادمة، وهذا ما يعرف بالتنمية المستدامة.
تواجه البيئة في أعقاب النزاعات المسلحة ثلاث مشاكل رئيسة. الأولى أن يكون أحد عناصرها من ماء أو هواء أو تربة مهدداً بالزوال، بمعنى أن يصبح كل أو معظم الموارد المائية مثلاً ملوثاً غير قابل للاستعمال. حالياً، يواجه لبنان مشكلة معالجة تسرب كميات كبيرة من زيت الوقود قدرت بين 10 و15 ألف طن الى البحر المتوسط. وهذا سيترك آثاراً طويلة الأمد، فضلاً عن آثار قصيرة الأمد، ليس فقط في ما يخص التنوع الأحيائي وإمكانية الصيد، بل حتى في ما يتعلق بنوعية الأمطار وكميتها، خصوصاً أن لبنان يعتمد على الزراعة كمصدر للدخل القومي. ويبدو هذا التسرب مشابهاً لذلك الذي حدث ابان حرب الخليج الأولى وقدر بنحو 6-8 ملايين برميل نفط، وترك آثاره الجسيمة على التنوع الأحيائي في العراق فضلاً عن نوعية الأمطار وتلوث المياه الجوفية. ويعدّ برنامج الأمم المتحدة للبيئة ذلك التسرب الأسوأ في التاريخ ( "دراسة أكاديمية عن البيئة في العراق"، برنامج الأمم المتحدة للبيئة، 2003، ص 57).
في هذا الاطار، يحتاج لبنان الى البدء بشفط المادة النفطية وايجاد موقع تخزين موقت تمهيداً لمعالجتها والتخلص منها. وهذه ليست بالمهمة اليسيرة، فضلاً عن كونها مكلفة. أما بخصوص التنوع الأحيائي، فلا بد من تقييم الأحياء الحيوانية والنباتية التي تضررت، والتشجيع على تربيتها ومن ثم اطلاقها الى بيئتها الطبيعية. ان هذا التسرب النفطي سيترك البيئة البحرية اللبنانية هشة تجاه أي مصدر آخر للتلوث، مما يعني ضرورة اعتماد معيار "الأثر المضاعف" أساساً لتقييم الأثر البيئي، وليس "الأثر المنفرد" الذي يعتمد على حجم ما يلقيه كل نشاط منفرداً الى هذه البيئة، اذ يعتمد معيار الأثر المضاعف على مجموع ما يلقى الى البيئة.
وتشير تقارير اولية من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الى ان حرائق واضراراً لحقت بالمعمل الحراري ومصفاة التكرير في منطقة الزهراني، فضلاً عن معمل للمواد البلاستيكية ومخازن اخرى للوقود. وتؤدي هذه الحرائق، خصوصاً تلك التي تنجم عن احتراق مواد يدخل في تركيبتها الكلور، الى تكوين مركبات الديوكسين والفيوران المكلورة، وهي مواد سامة ومسببة للسرطان قد تتراكم في جسم الانسان وتنتقل وراثياً. هذا فضلا عن أن الرياح تنقل الغازات السامة الناجمة عن الحريق الكيميائي الى مناطق اخرى. وعادة ما يطال الحريق الغطاء النباتي، مما يضاعف آثار التلوث لأن هذا الغطاء يساعد على تنقية الأجواء.
ان ذلك يجعل لبنان في حاجة ماسة الى معدات وتقنيات وخبرات قياس تلوث الهواء، مع اعطاء اولوية للمناطق التي تضم مصانع أو معامل محترقة، ومحاولة ابقاء المواطنين بعيداً عنها الى حين توفير المعالجة المناسبة. هذا فضلاً عن التشجيع على غرس الأشجار و تعويض الغطاء الأخضر.
تضرر شبكات المياه والمخلفات الحربية
المشكلة الثانية هي تعرض شبكات المياه للأضرار بسبب العمليات الحربية، مما يحرم المواطن بعد توقف هذه العمليات من امكانية الوصول الى المياه. يصيب شبكات المياه الصدأ والتكسر، وغالباً ما يؤدي ذلك الى تلوثها بمياه المجاري لوجود الشبكتين في مكان واحد تقريباً. ويترافق ذلك عادة مع شحة في الطاقة الكهربائية تؤدي الى نقص كبير في امكانية ضخ مياه الشرب.
ان ندرة المياه و شحتها في بيئة ما بعد الحروب تحديداً، التي تعاني عادة من وجود جثث وأشلاء فضلاً عما نفق من حيوانات، تجعل هذه البيئة هشة تجاه تفشي الأمراض (تعتبر المخلفات الطبية الملوثة بالدماء مخلفات خطرة تقتضي الشروط البيئية تعاملاً خاصاً معها). في لبنان مثلاً، هناك ضرورة لتوفير عناية بيئية خاصة لمنطقة قانا، حيث وقعت المجزرة، من خلال البدء الفوري بتقييم الأثر البيئي وتوفير معالجة بيئية وصحية للمنطقة ككل لتحديد امكانية عيش السكان فيها من دون أن تلحق بهم أضرار صحية.
ويعاني العراق من مشكلة مماثلة، حيث أن سلسلة الحروب والحصار الاقتصادي والعمليات التخريبية أدت الى تدمير شبكات المياه بسبب استهدافها، فضلاً عن قدمها و صدئها. كما حالت العمليات العسكرية دون ربط الكثير من المناطق بشبكة توزيع المياه، بما في ذلك أحياء داخل بغداد وعلى أطرافها ومدينة الصدر وكثير من القرى في الجنوب في منطقة الأهوار. وتعتبر بعض مؤسسات المجتمع المدني الحصار الاقتصادي حرباً رابعة لما أحدث من تدمير في اقتصاد العراق وشحة الموارد المالية لصيانة البنى التحتية بما فيها شبكات المياه والطاقة، وما تركه من آثار سلبية مباشرة على المواطن العراقي.
أما المشكلة الثالثة فهي المخلفات الحربية، بما فيها العربات المحترقة وبقايا الآليات الحربية والألغام والقنابل والذخائر غير المنفجرة. هذا يقتضي وجود خبراء في الأسلحة لنزعها وإيداعها في اماكن تخزين موقتة بعد اجراء مسح كامل للمناطق التي دارت فيها المعارك. وتتوقف صعوبة العملية على نوعية الأسلحة المستخدمة وطبيعة الذخائر. وفي هذا الاطار، لا بد أن تتضمن عملية تقييم الأثر البيئي مسحاً إشعاعياً للتأكد من سلامة البيئة إشعاعياً، ويشمل ذلك مسحاً للموارد المائية وطبقات التربة بل وحتى الهواء.
شراكة حكومية دولية مدنية
لعل التحدي البيئي في أعقاب النزاع المسلح هو الأكثر صعوبة بين جملة التحديات، ليس فقط لما قد يتركه من آثار طويلة الأمد في حال عدم معالجته، بل لأن هذه المعالجة مكلفة مالياً كما تتطلب معدات فنية خاصة وخبرات عالية للوصول الى اعادة عناصر البيئة الى ما كانت عليه قبل النزاع، رغم أن وضعها قبل النزاع قد لا يكون مثالياً.
واذا كان القرار الذي تتخذه المؤسسة البيئية الحكومية سينعكس على حياة المواطنين دونما استثناء، فان هذا يقتضي اشراكهم من خلال حملات التوعية بكيفية التعامل مع البيئة في أعقاب النزاع المسلح، وصولاً الى إعطائهم دوراً رقابياً في هذه العملية.
اما مؤسسات المجتمع المدني فيمكن أن تقوم بدور تكميلي في المجالات التي لا تستطيع المؤسسة البيئية الحكومية أن تعالجها. فتتفرغ الهيئة الحكومية للمشاكل الواسعة النطاق والباهظة الكلفة، في حين تسند الى مؤسسات المجتمع المدني معالجة المشاكل الجزئية وصولاً الى معالجة متكاملة. ويمكن لمؤسسات المجتمع أن تعدّ دراسات عن المناطق التي شملها التنظيف مثلاً، وسبل الارتقاء بأداء المؤسسة البيئية الحكومية، او ان تعد دراسة ميدانية عن الأحياء التي تضررت (الأنواع، عددها، أماكن تواجدها...) وتقترح سبلاً للمعالجة (مثلاً: الحد من عمليات الصيد البحري، أو تربية الأنواع المتضررة واطلاقها الى بيئتها).
كما تظهر الحاجة الى إشراك المؤسسات الدولية في معالجة المشاكل التي تحتاج الى خبرة متراكمة، مما يساهم في بناء القدرات الوطنية التي ستعمل جنباً الى جنب مع القدرات الدولية.
هكذا تتضافر جهود المؤسسة البيئية الحكومية مع المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني والدولي، للوصول الى أفضل النتائج في مواجهة تحديات بيئة ما بعد النزاعات المسلحة.
الدكتورة مشكاة المؤمن، وزيرة البيئة السابقة في العراق، هي حالياً أستاذة زائرة في مؤسسة القانون البيئي في واشنطن.