المتأمل لظاهرة العولمة وتداعياتها على صعيد البيئة قد يلحظ جملة من المؤشرات الكونية التي تحثنا على صياغة مشروع عربي لحماية البيئة. من ضمن هذه المؤشرات بروز قوى جديدة مثل الصين والهند ستؤثر في فهمنا لنسق التنمية والاستهلاك والتجارة الدولية، بل تتعداه إلى قدرتنا على تطوير أنماط جديدة للتنمية المستدامة مرتبطة بالسياق الاجتماعي المحلي وتطرح بديلاً للنسق الأميركي في الاستهلاك. كذلك، تحوُّل تسمية وزارة البيئة في الغرب إلى وزارة التنمية المستدامة يدل على الترابط القطاعي بين الماء والزراعة والطاقة والتخطيط.
ومن المؤشرات الأخرى الإيجابية نمو وعي جديد لدى كل من المجتمع المدني والقطاع الخاص إلى ضرورة الاعتناء بالرأسمال الطبيعي المتمثل بالغابات والأنهار والبحار والهواء المحيط بنا، وضرورة التوازن بين الرأسمال الاجتماعي والمالي والطبيعي.
وهناك شعور وتوجه ملموس لدى النخبة في الوطن العربي إلى ضرورة إيجاد وعي كوني لقضايا البيئة يحقق منافع مباشرة للمجتمعات المحلية. ولعل في تجربة الاتحاد الأوروبي وتطويره لإطار تعاوني حول صناعة الحديد مثالاً يمكن الاستفادة منه. لكن التحدي في الوطن العربي هو سيطرة نسق التعليم وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تكرس إطار العمل ضمن الدول القطرية، بدلاً من مراعاة البعد الإقليمي كوحدة أساسية للنظر في قضايا البيئة والتنمية بأبعادها كافة. ولتوضيح ذلك يمكن النظر إلى أزمة الماء ضمن إطار إقليمي تكاملي بين قطاعات الزراعة والمياه والتجارة.
فمن البديهي أن الدول في الوطن العربي تعاني من شح في الموارد المائية، لأن وحدة التحليل هي الدولة بمفردها ولأن منهجية التحليل تستبعد التكامل بين القطاعات المعنية (زراعة، مياه، طاقة، تجارة). لكن حل العجز المائي كان يتم تلافيه عبر استيراد الحبوب والمنتوجات الزراعية من الدول الأخرى الغنية بالمياه، وهو ما يسمى "الماء المخفي" (virtual water) وهذا يمكن أن يقال عن تجارة السلع التي تتضمن طاقة يمكن تسميتها بالطاقة المخفية (virtual energy). ويمكن القول إنه لا يوجد شح في موارد المياه على صعيد العالم ككل، ولا على صعيد الوطن العربي الكبير، خصوصاً إذا راجعنا بشكل ناقد السياسات العامة للزراعة في الدولة وأولويات توزيع المياه بين القطاعات المختلفة، وراعينا الميزة النسبية لكل دولة، ضمن رؤية علمية منهجية تراعي كذلك مفهوم الأمن البيئي الذي لا ينفصل عن الأمن البشري.
إن حرية التجارة وسهولة وسائل النقل والاتصالات ساهمتا في التخفيف من حدة الأزمة المائية عبر سياسات التجارة للسلع، وبالتحديد الزراعية منها. لقد تمت مواجهة العجز المائي في الوطن العربي عبر استيراد الحبوب والسلع الغذائية لتحقيق الأمن الغذائي.
ولعل مفهوم الطاقة المخفية والماء المخفي اللذين نستوردهما أو نصدرهما عبر السلع والمنتوجات المختلفة فرصة لإعادة تأمل المشروع العربي للتنمية المستدامة. ويمكن رسم الملامح الأساسية للمشروع العربي للبيئة عبر النقاط التالية:
المؤسسات والتشريعات الإقليمية للبيئة: الأطر المؤسسية والتشريعية لحماية البيئة على صعيد الإقليم ما زالت دون طموح في تجسيد منظومة متكاملة لتحقيق التنمية المستدامة. ومن الضروري إعادة النظر في القوانين والتشريعات البيئية بحيث تتضمن البعد الإقليمي كوحدة للتحليل وكشرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، وهذا يتطلب تفعيل دور المؤسسات العربية الإقليمية التي تعنى بالبيئة والتنمية.
الثقافة العامة والتعليم والإعلام: إن مهمة التعليم والإعلام الهادفين المستنيرين تكمن في قدرتهما على رفع سوية الخطاب العلمي إلى خطاب سياسي لصناع القرار. وهذا بدوره يسهم في تنمية الذكاء المجتمعي ويشكل كتلة حرجة، بحيث يدرك الإنسان العربي معنى التكامل البيئي وقيمته وأهميته في التنمية. مما لا شك فيه أن التعليم يمثل صمام الأمان لضمان لغة مشتركة ورؤية للمستقبل. التعليم من أجل التنمية المستدامة يجب أن يصبح هدفاً منشوداً.
المعلوماتية وتحليل السياسات العامة: من الضروري أن تترجم قيمة التكامل في العمل البيئي والتنموي ضمن الوطن العربي إلى إحصائيات وتحليل للاتجاهات المستقبلية، بشكل يعمِّق قيمة هذا التكامل عبر الاتفاقيات المشتركة وحركة السكان والعمالة وتبادل الخدمات عبر التجارة، ويشكل إطاراً معرفياً لبناء المؤسسات المشتركة ولقراءة المستقبل برؤية عربية جديدة.
المعايير البيئية الموحدة للوطن العربي: الآثار السلبية على البيئة يتعدى مداها الحدود القطرية. لذا ينبغي صياغة المعايير والمواصفات البيئية وتفعيلها ومراجعتها ضمن أسس إقليمية عادلة ومعقولة. ويبدو أنهناك دوراً استراتيجياً لمؤسسات جامعة الدول العربية لتحقيق هذه الرؤية.
في نهاية المطاف، لعل نقطة البدء هي في ضرورة توليد وعي جديد لضمان مستقبل كريم ومستدام لأبنائنا.
الدكتور عودة الجيوسي هو المدير الإقليمي لمنطقة غرب ووسط آسيا وشمال أفريقيا
في الإتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)