كثيرون رأوا في ستيف إروين نصيراً للطبيعة وحيواناتها. لكن النجم الاوسترالي الشهير، بطل البرامج الوثائقية التلفزيونية الملقب ''صائد التماسيح''، تلقى انتقادات عنيفة لمخاشنته الحيوانات البرية وتحدّيها في عقر دارها. وفي كل الأحوال، كان موته الشهر الماضي بلدغة سمكة سامة صدمة لجميع عارفيه ومشاهديه في أنحاء العالم. ولكثير من مشاهدي قنوات الطبيعة العالمية في الدول العربية، كان ''صائد التماسيح'' بطلاً بحجم الاسطورة
''لقد رأيت الشريط. رهيب أن تشاهد شخصاً يموت!'' جون ستينتون، مدير أعمال ''صائد التماسيح'' ستيف إروين، اعتبر أن الشريط الذي سلمه الى الشرطة هو أفظع ما شاهده في حياته. فهو يوثِّق وفاة النجم الاوسترالي الشهير بـ''طعنة'' سامة من سمكة راي (شفنين) اخترقت قلبه، خلال عمليَّة تصوير تحت الماء في الحيد المرجاني العظيم قبالة بورت دوغلاس في مقاطعة كوينزلاند الاوسترالية. ولعل هذا هو الهجوم القاتل الوحيد لسمكة راي يتم تصويره.
من عرف ستيف إروين أو شاهد أعماله على التلفزيون لم يكن يستبعد موته بين شدقي تمساح أو بلدغة ثعبان. لكن أحداً لم يتصور أن يموت بوخزة سمكة.
قالت عالمة الأحياء البحرية الدكتورة ميريديث بيتش: ''من غير المألوف أن يُلدغ الغطاسون بشوكة الراي ما لم يمسكوا بالسمكة ويصارعوها. وبالنسبة الى ستيف إروين، ربما يكون هذا ما حدث".
وقال منتج الأفلام البحرية بن كروب، بعدما شاهد نسخة من الشريط وتحدث الى المصور الذي صوره، انه يعتقد أن سمكة الراي شعرت بالخطر لأن ستيف كان قربها وكان المصور أمامها، وفي هذه الحالة تكون ردة فعلها التلقائية أن تضرب بالشوكة المسننة في رأس ذيلها والتي قد يصل طولها الى 25 سنتيمتراً. واعتبر كروب، وهو صياد سابق بالرمح لأسماك الأعماق، ان إروين حصر السمكة من غيرقصد، ''فتوقفت والتوت ورمت بذيلها الذي فيه الشوكة وأصابته في الصدر. قال: ''انها حركة دفاعية، وهي شبيهة بطعنة خنجر مسموم''. وأضاف أن اللدغة التي تعرض لها إروين هي حادثة تحصل مرة في كل مليون حالة مماثلة، ''لقد سبحتُ مع أسماك راي كثيرة، ولم تفعل لي ذلك إلا واحدة، وقد تجنبتها".
مات إروين ولم يتجاوز الرابعة والأربعين من العمر. وعشية موته عثر على أكثر من عشر سمكات راي نافقة ومشوهة وقد قطعت ذيولها على شواطئ كوينزلاند، ما أثار تكهنات بأنها أعمال ثأر من معجبين. ويتساءل كثيرون عما إذا كان الشريط الذي يظهر موته سيعرض على شاشة التلفزيون. لكن مدير أعماله جون ستينتون قال في حديث تلفزيوني الى لاري كينغ على شبكة ''سي ان ان'': ''هذا الشريط يجب إتلافه".
طرزان سوبر بطل
حصل ستيف إروين على ثعبان هدية في عيد ميلاده السادس. وفيما كان معظم الأطفال الآخرين يفتحون علب اللحم لاطعامقططهم وكلابهم، كان ستيف في البرية يصطاد الأسماك والفئران لاطعام تماسيحه وأفاعيه.
عاش ستيف في كنف والديه بوب ولين اللذين كانا يملكان ''منتزه الزواحف والحيوانات'' في كوينزلاند. فشغف بالحيوانات منذ نعومة أظفاره، مساعداً في إطعامها ورعايتها. علمه والده الكثير عن الزواحف، حتى أنه علمه كيف يقفز الى الأنهار ويقبض على التماسيح ليلاً وهو لم يتجاوز عامه التاسع. وكان الأب وابنه يعتزان بأن جميع التماسيح في منتزههما، ويربو عددها على المئة، إما اصطاداها بأيديهما العارية وإما تم استيلادها وتربيتها هناك.
عام 1991 تسلم ستيف إدارة منتزه العائلة وغيَّر اسمه ليصبح Australia Zoo (حديقة حيوان أوستراليا). وكان قبل سنة التقى المنتج التلفزيوني جون ستينتون وهو يصور شريطاً إعلانياً في المنتزه، فاتفقا على تصوير فيلم وثائقي بعنوان ''صائد التماسيح'' تم إنتاجه عام .1992 وهو يدور حول ''البطل'' ستيف ومغامراته في التقاط التماسيح والتعريف بسلوكياتها. وقد حقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً شجع سريعاً على إعداد المزيد. وتم لاحقاً تصوير عشرات الحلقات من ''صائد التماسيح'' و''ملفات التماسيح'' و''يوميات التماسيح''، عرضت على شاشات التلفزيون في أنحاء العالم.
تزوج ستيف شابة أميركية تدعى تيري رينز، كانت تعمل مع والدها في ادارة شركة للشحن البري. وقد اعتاد والدها أن يحضر الى المنزل حيوانات جريحة من الطرق السريعة التي تعبرها شاحناته، ما طبع في نفسها التزاماً بانقاذ الحيوانات البرية. وهي افتتحت مركزاً في ولاية أوريغون الأميركية للعناية بالثدييات المصابة وإعادة اطلاقها في البرية. وسافرت الى أوستراليا للاطلاع على عمليات اعادة التأهيل في منتزهاتها العامة، وزارت حديقة كوينزلاند للزواحف والحيوانات ''بدافع الفضول فقط'' كما قالت. هناك التقت ستيف إروين، الذي كان يقدم عرضاًللتماسيح. تزوجا عام ،1992 وأمضيا شهر العسل أثناء تصوير فيلمهما الوثائقي التلفزيوني الأول معاً.
وباتت تيري إروين ''الشخص العاقل'' في مسلسل ''صائد التماسيح'' على القناة الفضائية Animal Planet (كوكب الحيوانات). ومن شاهدها تتحدى الأعماق الموحلة لنهر زاخر بالتماسيح، بعدما سقطت عن الزورق، يدرك مدى جرأتها ومقدرتها. وكانت تصف زوجها بأنه ''طرزان بيئي'' و''سوبر بطل''. وقد رزقا طفلين، ابنة تدعى بيندي سو (8 سنوات) وابن يدعى روبرت (3 سنوات). واسم الابنة مركّب من اسمي حيوانين كانا مفضلين لدى ستيف، هما التمساح ''بيندي'' وكلب الصيد ''سو".
كان ستيف إروين يعتبر نفسه ''محارباً من أجل الحياة الفطرية''، ويعرّف عن مهمته بأنها ''صون الأنواع المعرضة للخطر في العالم''. وكان يحث الناس على السياحة المسؤولة وعدم دعم الصيد غير المشروع من خلال ممارسات مثل شراء الفراء وأصداف السلاحف أوتناول حساء زعانف القرش، قائلاً: ''متى كان قتل حيوان فطري أو أكله أو لبسه سبيلاً لصون الأنواع؟ هناك أشخاص يطفئون أعقاب سجائرهم في منافض من أكفّ الغوريلا، ويستعملون سلال مهملات كانت في ما مضى أقدام فيلة، ويزينون بيوتهم بتحف من العاج، ويرتدون فراء الفهود. لا تشتروا هذه السلع! وعندئذ لن تكون لها سوق ولن تُقتل هذه الحيوانات".
أصرّ إروين على استعمال اللغة العامية الأوسترالية، مثل صرخته الشهيرة ''Crickey!’’. وتميز بإظهار مشاعره الجياشة في عروضه الحية. قال مرة، وكأنه يتكهن بطريقة موته: ''قاعدتي الاولى هي إبقاء الكاميرا تدور، حتى لو اهتزت، حتى لو نهشني تمساح كبير، أريد أن أدخل في جوفه وأصرخ ''كريكي!'' قبل أن أموت. هذا أقصى ما أصبو اليه".
وهو قال في مقابلة تلفزيونية انه لن يوقف عمله الهادف الى صون الحياة الفطرية إلا عندما يتقن أولاده هذه المهمة، كما فعل هو مع والده. ومن المفارقات أنه، حين تلقى اللدغة القاتلة من سمكة الراي، كان يصور مشهداً لبرنامج تلفزيوني ستقدمه ابنته.
تحدي الحيوانات ومداعبة الخطر
شغف إروين بتحدي الحيوانات الخطرة أثار حفيظة كثيرين. وقد استجلب نقمة عارمة حين دخل حظيرة التماسيح مرة ليطعمها وهو يمسك ابنه الذي كان عمره شهراً. وقال أحد النقّاد: ''كان يمسك ابنه باحدى يديه ودجاجة بيده الأخرى. وللحظة يختلط على المشاهد أن يعرف أياً منهما يريد إطعامه للتمساح".
لكن إروين ادعى أنه كان ممسكاً بزمام الأمور وأن طفله كان في منأى من الخطر، ورفض الاعتذار عن فعلته رغم الاستنكار العارم في اوستراليا والخارج. ودافع عنه أنصاره قائلين إن عشرات السنين من مواجهة التماسيح علمته أن يتكهن سلوكها ويعرف احتمالات الخطر. كذلك دافعت عنه زوجته قائلة ان طفلهما لم يكن في خطر أكثر مما لو كان يتعلم السباحة. لكن الحادث دفع حكومة ولاية كوينزلاند الى تعديل قوانينها المتعلقة بمقاربة التماسيح، لتمنع الأطفال والبالغين غير المدربين من دخول حظائرها.
وفي العام 2004 ثارت حوله ضجة لأنه اقترب كثيراً من بعض الحيوانات الفطرية الى حد إزعاجها، وخصوصاً الحيتان والفقم والبطاريق، وذلك أثناء تصوير فيلمه الوثائقي ''كاسر الجليد'' في القارة القطبية الجنوبية (أنتارتيكا). وقد أسدل الستار على هذه المسألة لاحقاً من دون أن توجه اليه اتهامات.
اعتبر النقّاد أن ما لم يفهمه إروين مطلقاً هو أن الحيوانات تحتاج الى فسحة، وأنه لم يكن يتردد في مخاشنة أي حيوان. فكل مخلوق لوَّح له مهدداً أثناء التصوير كان يمر في محنة، وكل أفعى ضايقها كانت في وضع لا تحسد عليه، وردة فعلها المحتملة الوحيدة ازاء وضعها المخيف هي أن تلدغ.
قال دان ماثيوز، نائب رئيس جمعية ''أناس من أجل معاملة اخلاقية للحيوانات'': ''ليس غريباً أن يموت ستيف إروين باثارة حيوان خطر. لقد جعل مهمته مخاصمة الحيوانات الفطرية المرتعبة، وهذا مثال خطير جداً للأطفال''. وأضاف: ''اذا قارنته بشخص مسؤول نصير للطبيعة مثل جاك كوستو، فهو يبدو شبيهاً بنجم رخيص من تلفزيون الواقع".
الكاتبة الصحافية جرمين غرير تصوَّرت الحادث الذي أودى بصائد التماسيح كما يأتي: ''ما يبدو أنه حدث على ذلك الحيد المرجاني هو أن إروين والمصور أبحرا في زورق صغير علَّهما يجدان شيئاً. وما وجداه كان أسماك الراي اللاسعة. هنا لا يمكنك إلا أن تتصور إروين يصرخ: ''انظر الى هذه الأسماك الجميلة! كريكي! بهذه الأشواك تستطيع الراي أن تقتل حصاناً!'' (نعم يا ستيف، لكن بالله عليك، سمكة الراي اللاسعة لا تريد أن تقتل حصاناً. إنها تأكل القشريات). جميع الأطفال الأوستراليين يعرفون عن أسماك الراي اللاسعة. وقد قيل لنا إن ثلاثة أشخاص فقط ماتوا بلسعاتها... إنها رائعة ما دمت تنظر اليها فحسب، وهيتدفن جسدها في الرمال أو الطين بحيث لا تظهر إلا عيناها بارزتين الى الخارج. ولكن ما يجب ألا تفعله اذا صادفت واحدة هو أن تدوس عليها. فردة فعلها التلقائية ضربة قوية من الذيل، كجلدة سوط، حيث شوكة مغلفة بمادة لزجة جرثومية قاتلة".
وختمت غرير مقالتها: ''عالم الحيوان انتقم أخيراً من إروين، ولكن ليس قبل أن يعلّم جيلاً من الأولاد أن يصرخوا في آذان حيوانات تتمتع بسمع أقوى عشر مرات من سمعهم، آملين أن يصبحوا هم أيضاً أصحاب حدائق حيوان أثرياء".
لكن ستيف إروين يبقى في نظر الكثيرين بطلاً اسطورياً عرفهم على كثير من وجوه الحياة الفطرية عن قرب. وستبقى حملاته للدفاع عن الحيوانات البرية ومعارضته لقتلها شاهداً على عصر تلفزيوني يحمل طابعه الشخصي.