رفضت شركة الشحن البحري دفع تكاليف معالجة النفايات الخطرة في هولندا، فأبحرت الناقلة بحمولتها السامة وفرغتها في ساحل العاج. انها قصة جديدة للتجارة القذرة التي حوَّلت البلدان النامية مكبّات للنفايات الخطرة المصدَّرة من الغرب
كان الفتى جان باتيست غياسي ينقّب في مكب النفايات قرب أبيدجان بحثاً عن خردة معدنية، ليبيعها بنصف دولار للكيلوغرام. وهو اعتاد أن يفعل ذلك ساعات يومياً بعد انصرافه من المدرسة، لكسب بعض المال الذي يقيت عائلته. لكن صنداله المهلهل غرق ذلك المساء في بقعة وحل سوداء، فعاد الى منزله وقد غطت قدميه وساقيه مادة غريبة تفوح منها رائحة نفّاذة.
تلك الرائحة ذاتها ملأت المكب وأحياء المدينة، وكانت كريهة الى حد الإرعاب. عبق خانق يحرق الأنف والعينين، جمع بين روائح البيض الفاسدوالثوم والبترول. بعد أيام ظهرت على جلد الفتى وكثيرين من سكان الجوار بثور تحولت الى قروح سيالة. وعانت عائلات بأسرها من صداع وغثيان ونزف في الأنف وآلام في المعدة. مات عشرة أشخاص على الأقل، وأدخل نحو مئة ألف الى المستشفيات، مما شل نظام الرعاية الصحية الهش في بلاد أفقرتها حرب أهلية منذ العام 2002 ومزقتها بين شمال يسيطر عليه المتمردون وجنوب في يد الحكومة.
عندما شاعت أخبار الموت والمرض ذعر السكان المقيمون قرب المواقع الملوثة بالوحول السامة، وأخليت المنازل، ونزح الألوف في عربات تجرها الحمير الى الغابات القريبة التي هجروها هرباً من عنف الحرب الأهلية.
كيف وصلت الوحول السامة بأبخرتها القاتلة الى عقر دار أهالي أبيدجيان، العاصمة التجارية لساحل العاج؟ انها حكاية ''عولمة''. لقد أفرغتها هناك ناقلة صنعت في كوريا، تملكها شركة يونانية، ترفع علم باناما، مستأجرة من فرع في بريطانيا لشركة سويسرية مقرها هولندا.
التخلص المأمون من تلك الوحول في أوروبا كان سيكلف أكثر من نصف مليون دولار، لذا تم إلقاؤها على أبواب فقراء في أفريقيا.
تشيرنوبيل ساحل العاج
بدأت الحكاية في 2 تموز (يوليو) ،2006 عندما وصلت ناقلة ينخرها الصدأ اسمها ''بروبو كوالا'' الى ميناء العاصمة الهولندية أمستردام في طريقها الى إستونيا، بعدما مكثت طويلاً في البحر المتوسط. لقد استأجرتها شركة ''ترافيغورا'' التي تتعاطى التجارة بالنفط والمعادن، وحمّلتها ما ادعت أنه 250 طناً من ''الوحول العادية'' الناتجة من غسل خزانات السفن.
عرضت شركة ''خدمات مرفأ أمستردام'' معالجة تلك الوحول في مقابل 15 ألف دولار. ولكن مشاكل برزت عند بدء تفريغها، فقد تبين أن حجمها كان أكبر كثيراً من المعلن، إذ تعدى 400 طن، ثم ان الأبخرة المنبعثة منها أصابت بعض العمال الهولنديين بالغثيان. وقال لوت بلانتنغ الناطقباسم خدمات مرفأ أمستردام: "كان لونها أسود كالزفت، وكانت تنبعث منها رائحة نتنة حادة. لم نشاهد نفايات مثل هذه من قبل".
أوقفت الشركة عملية التفريغ وأمرت باجراء تحاليل للوحول، بيَّنت نتائجها وجود نفايات خطرة. فتم إبلاغ السلطات الهولندية حيث فتح المدعي العام تحقيقاً جنائياً. وأُبلغت شركة ''ترافيغورا'' أن كلفة معالجة الوحول والتخلص منها باتت أعلى كثيراً: 300 ألف دولار. وكان ذلك يقتضي أيضاً دفع رسوم ميناء ليوم اضافي بقيمة 45 ألف دولار، وغرامة بنحو 300 ألف دولار لتأخر الناقلة في الوصول الى إستونيا. لكن ''ترافيغورا''، التي بلغت عائداتها عام 2005 نحو 28 بليون دولار، رفضت دفع هذا المبلغ، واسترجعت وحولها وغادرت مرفأ أمستردام.
أبحرت ''بروبو كوالا'' الى إستونيا، حيث تم تحميلها منتجات نفطية روسية. وبعد تسليمها في نيجيريا، تابعت رحلتها الى أبيدجيان لتصل في 19 آب (أغسطس). وأبلغت سلطات الميناء ووزارة النقل في ساحل العاج بأنها تنقل نفايات كيميائية تتطلب معالجة خاصة. وهناك كلفت شركة محلية تدعى ''تومي'' لهذا الغرض.
استأجرت ''تومي'' بضع عشرة شاحنة صهريجية ضخت اليها الوحول، وتوجهت الى نحو 20 موقعاً في أبيدجيان وضواحيها حيث أفرغتها تحت جناح الظلام. وقد تم القاء عدة حمولات في مطمر أبيدجيان، في منطقة تدعى أكويدو. ومع أن السكان هناك اعتادوا الروائح الكريهة، الا أنهم ارتابوا بخطورة تلك الوديعة الجديدة، فتعقبوا احدى الشاحنات وطوقوها مما أجبر سائقها على الفرار. وفي أماكن أخرى، تخلى السائقون عن شاحناتهم خوفاً من تعرضهم لاعتداءات بعد انتشار خبر القاء نفايات سامة.
لم تبادر سلطات ساحل العاج الى معالجة المشكلة في الوقت المناسب، رغم أن الروائح الكريهة كانت تعبق في أنحاء أبيدجيان. وأثار تفشي الأمراض تظاهرات صاخبة حمّلت ''الفساد الحكومي'' مسؤولية تمرير النفايات الخطرة وإلقائها. وقام بعض المتظاهرين الغاضبين بضرب وزير النقل وإحراق منزل مدير المرفأ، باعتبارهما المسؤولين المباشرين محلياً. وفي النهاية، أجبر الغضب الشعبي رئيس الحكومة على الاستقالة في أيلول (سبتمبر)، ليشكل حكومة ''جديدة'' لم تختلف عن سابقتها الا بتغيير وزيري النقل والبيئة.
تناقلت الصحافة تخمينات حول الحادث الذي وصفته بـ ''تشيرنوبيل ساحل العاج'': هل تأسست شركة ''تومي'' خصيصاً لإتمام هذه الصفقة؟ وهل ''ترافيغورا'' ضالعة في ذلك، إذ انها تملك هي وأفراد من عائلة رئيس ساحل العاج أسهماً في شركة ''بوما إنرجي'' التي منحت ''تومي'' عقد التخلص من الوحول السامة؟ لكن ''ترافيغورا'' نفت اي علاقة بـ ''تومي''. وقال جان مات الناطق باسمها: ''أُبلغنا أن هناك أربع شركات يمكنها معالجة تلك النفايات، بينها تومي. يبدو أن هذا الخيار لم يكن موفقاً، ولسنا مسؤولين عن إلقاء النفايات في العراء من دون معالجة''. لكن تجار نفط وخبراء اوروبيين في النفايات السامة أكدوا أن ساحل العاج لا تملك مرافق قادرة على معالجة نفايات عالية السمية، وأن هذا لا يخفى على الجهات المعنية.
عادت الناقلة ''بروبو كوالا'' الى إستونيا، حيث تم احتجازها بناء على طلب رسمي من ساحل العاج، بعدما حاصرتها سفينة منظمة ''غرينبيس'' وقيّد ناشطوها أجسادهم اليها للحؤول دون مغادرتها المرفأ. كذلك رفعت منظمة ''غرينبيس'' في أمستردام، حيث مقرها الرئيسي، دعاوى جنائية ضد وزارة البيئة الهولندية. وقال الكيميائي إيكو ماتسر، خبير النفايات السامة لدى المنظمة: "كانت الاجراءات كلها مخالفة للقانون، بدءاً من السماح للنفايات بالدخول، الى اعادة ضخها في الناقلة، وانتهاء بتركها تغادر من دون أي تراخيص".
وأفاد لوكاس رينديرز، الكيميائي وأستاذ العلوم البيئية في جامعة أمستردام، إنه شاهد نتائج تحليل مخبري أجري في ساحل العاج لعينات أخذت من حمولة الناقلة قبل تفريغها، وقد أظهرت مستويات عالية جداً من الصودا الكاوية (caustic soda) ومادة المركبتان الكبريتية السامة (mercaptan) وكبريتيد الهيدروجين (H2S) الذي هو، كما قال، "مركّب متطاير له رائحة البيض الفاسد، لكنه وُجد بتركيزات عالية الى حد يتعذر شمُّها في بعض الأحيان لأنها تشل الجهاز العصبي. إنه قاتل ومفعوله سريع جداً".
لم يتضح تماماً منشأ تلك النفايات الخطرة. فثمة تقارير على أن الناقلة عملت في البحر المتوسط كـ ''خزان عائم'' واستقبلت حمولات سامة من سفن مختلفة، اضافة الى وحول بترولية. كما أفادت تقارير في الصحافة الهولندية أنها كانت تستخدم سرياً كمحطة عائمة لتكرير النفط خلال الصيف، حين ارتفعت أرباح البنزين بشكل غير معتاد. لكن ''ترافيغورا'' نفت كل ذلك
بضائع قيِّمة!
قال أندرياس برنستورف، وهو خبير بتجارةالنفايات السامة في هامبورغ بألمانيا: ''كان على سلطات ميناء أمستردام أن تجبر الناقلة على التوجه الى محرقة روتردام القريبة، وألا تسمح لها باكمال طريقها وكأن شيئاً لم يحصل''. فاتفاقية بازل بشأن التحكم بنقل النفايات الخطرة عبر الحدود تنظم مسؤوليات البلدان الصناعية إزاء التخلص من النفايات الخطرة، وهي تمنع تصديرها الى البلدان النامية حيث لا توجد مرافق مناسبة لمعالجتها أو التخلص منها. وفي حين أن عدة بلدان صناعية لم تصدق على هذه الاتفاقية، بينها الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، فقد كانت هولندا من بلدان الاتحاد الاوروبي الـ 15 ''القديمة'' التي وقعت كلها المعاهدة منذ ولادتها عام 1989.
القوانين التي تمنع هذه الصادرات موجودة، لكن تطبيقها والاشراف على تطبيقها غير وافيين. ويرى جيم بوكيت، من منظمة ''شبكة عمل بازل'' (Basel Action Network) في مدينة سياتل الأميركية، "ان الوضع الحالي ليس أفضل مما كان قبل إقرار اتفاقية بازل، فهناك الآن دلائل على حدوث وفيات وأمراض نتيجة الاتجار بالنفايات أكثر من أي وقت مضى".
وقد اعتبر المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أخيم شتاينر أن ''كارثة أبيدجيان هي تجسيد مؤلم للمعاناة البشرية التي يسببها التخلص من النفايات بطريقة غير مشروعة''. ويقدر خبراء بيئيون ان أكثر من 100 مليون طن من النفايات السامة يتم انتاجها في أنحاء العالم كل سنة، يصدَّر منها نحو 10 في المئة. ويقول بيار بورتاس، نائب الأمين التنفيذي لاتفاقية بازل: "هذه الأرقام تعطي فكرة عن أبعاد الوضع، لكنها لا توضح تماماً حقيقة الاتجار بالنفايات السامة".
تحت قناع تصدير ''بضائع قيِّمة''، ترسل الى البلدان النامية شحنات من أجهزة الكومبيوتر والهواتف الخليوية المستعملة وغيرها من النفايات الالكترونية، إضافة الى السيارات والبرادات القديمة الزاخرة بمواد خطرة وعالية السمية مثل الزيوت ومخمدات الحرائق والديوكسين وثنائيات الفينيل المتعددة الكلورة، فضلاً عن المبيدات المنتهية الصلاحية أو الممنوعة في بلد المنشأ.
تصدير النفايات السامة من البلدان المصنّعة الى البلدان النامية بات عملاً روتينياً. وتعترف المفوضية الأوروبية بأن نحو 50 في المئة من صادرات النفايات التي تغادر الموانئ الأوروبية لا تتقيد بالتشريعات الدولية. وقد اعلنت في حزيران (يونيو) الماضي انها ستعزز تطبيق تشريعاتها ابتداء من سنة 2007. وقد أعلنت ''غرينبيس'' أن أعمال تفتيش أجريت في 18 ميناء بحرياً أوروبياً عام 2005 أظهرت أن 47 في المئة من النفايات المخصصة للتصدير هي غير مشروعة، وأن ما لا يقل عن 23 ألف طن من النفايات الالكترونية غير المصرح بها أو المخصصة للسوق ''الرمادية'' شُحنت من بريطانيا وحدها عام 2003 الى جنوب شرق آسيا والهند والصين وافريقيا.
وفي الولايات المتحدة، يقدر ائتلاف وادي السيليكون لمناهضة السموم (SVTC) وهو منظمة بيئية تدير حملة ضد تصدير النفايات الالكترونية، أن ما بين 50 و80 في المئة من النفايات الالكترونية التي تجمع من اجل اعادة تدويرها يتم تصديرها الى بلدان نامية. وفي تقرير أصدره عام 2002 بعنوان ''تصدير الأذى: إغراق آسيا بنفايات التكنولوجيا المتطورة''، قدر الائتلاف أن 500 ألف جهاز كمبيوتر مستخدمة في الولايات المتحدة ستصبح عديمة الجدوى خلال الفترة 1997 ـ 2007، ما سيؤدي الى انتاج أكثر من 600 ألف طن من النفايات السامة، بما في ذلك البلاستيك والرصاص والكادميوم والكروم والزئبق.
وهناك خطر من نوع خاص، هو تصدير السفن التي انتهت حياتها والملوثة بنفايات الاسبستوس (الأميانت) الى ''ساحات الخردة'' في آسيا. فقبل أشهر، مثلاً، أُجبرت الحكومة الفرنسية على التخلي عن تصدير حاملة الطائرات ''كليمنصو''، التي تزن 27 ألف طن وتحوي مئات الأطنان من الأسبستوس، الى ساحة ألانغ للخردة في الهند. لكن سفينة اخرى، هي ''إس إس نورواي'' التي كانت الحكومة الفرنسية تملكها في وقت سابق ويقال إنها تحوي 1250 طناً من الاسبستوس، تنتظر في الساحة ذاتها لتفكيكها. ومن المعروف أن الاسبستوس يُحدث مرضاً في الرئتين يستفحل تدريجياً ويمكن أن يستثير سرطاناً رئوياً وورماً خبيثاً في بطانة الصدر أو البطن. وقد تبين لهيئة محلفين عينتها المحكمة العليا في الهند بعد قضية ''كليمنصو''، أن عاملاً من كل ستة عمال في ساحة تفكيك السفن يعاني صحياً نتيجة التعرض للأسبستوس.
''الحفرة الصحية'' للقرية العالمية
يرى بيئيون ان أفريقيا، الأفقر بين قارات العالم والتي تضم مناطق كثيرة تعاني من عدم استقرار سياسي، تتحول تدريجياً الى مقبرة للنفايات الخطرة. ومن أسباب ذلك الفساد، وغياب أو عدم تطبيق القوانين المحلية التي تحول دون التخلص العشوائي من النفايات، ومحاولة الشركات اجتناب نفقات أعمال التنظيف والمعالجة. ويقول مايكل وليامس، الناطق باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة: ''تعتبر أفريقيا الأكثر تأثراً بين القارات. وقد حصلت فيها حالات عديدة حيث ألقيت حمولات السفن عشوائياً، او تركت السفينة برمّتها حتى تفنى''، مضيفاً أن الأمم المتحدة لا تملك إحصاءات حول عدد الأشخاص الذين قتلتهم النفايات أو أمرضتهم.
وبحسب الاحصاءات المتوافرة، فان البلدان التي تقدم تقارير الى الامانة العامة لاتفاقية بازل أنتجت نحو 108 ملايين طن من النفايات الخطرة عام 2001، وكانت أوزبكستان في المقدمة إذ أنتجت 26 في المئة من المجموع. وجاء في تقرير للأمم المتحدة أن ''كمية النفايات المتنقلة حول الكرة الأرضية تزداد سريعاً''، مقدراً أنها ''ازدادت بين عامي 1993 و2001 من مليوني طن الى أكثر من 8,5 ملايين طن''. لكنه أشار الى أن البلدان لا تبلِّغ جميعها عن شحنات النفايات.
يقول العالم البيئي السنغالي حيدر العلي: ''نتكلم عن العولمة، عن القرية العالمية، ولكن هنا في افريقيا يخالجنا انطباع بأننا الحفرة الصحية لتلك القرية''. وهو يرى أن "النفايات غالباً ما يقبلها أشخاص فاسدون أو عصابات أو جماعات متمردة تريد المال لشراء أسلحة".
وحذر المدير التنفيذي لمنظمة ''غرينبيس'' غيرد ليبولد من ''استعمار جديد بواسطة النفايات الخطرة''. وقد أوردت مجلة ''دير شبيغل'' الألمانية حالات حديثة تؤيد هذه المخاوف، ومنها أن بالات من المخلفات البلاستيكية المفروزة تحت إشراف برنامج ''النقطة الخضراء'' لاعادة تدوير النفايات المنزلية في ألمانيا انتهى بها المطاف في الصحراء المصرية. وفي نيجيريا قبض ''رجل أعمال'' 100 دولار شهرياً لقاء تخزين آلاف مستوعبات النفايات السامة في أرضه. وبموجب اتفاقية مع فرنسا، تحصل حكومة بينين علىدفعة نقدية مسبقة بقيمة 1,6 مليون دولار ومساعدات انمائية لمدة 30 سنة لقاء قبولها نفايات خطرة بما فيها مواد مشعة.
عام 1996، طلب البرلمان الاوروبي رسمياً من حكومات بريطانيا وايطاليا واسبانيا استرجاع نفايات سامة صدَّرتها شركة ''شور'' للكيماويات الى جنوب أفريقيا، منبهاً الى أن مئات الأطنان من النفايات الزئبقية السامة ألحقت ضرراً بالبيئة وسببت للسكان المحليين مشاكل صحية خطيرة. وفي الكاميرون، تم إلقاء نحو 5600 ليتر من نفايات الكلور عام 2005 في قرية قرب العاصمة الاقتصادية دوالا. وحاولت السلطات تخفيف الكلور في مياه البحر، لكن العملية تحولت الى كارثة عندما انفجر المزيج فقتل جندياً وأصاب نحو 10 أشخاص بجروح.
في كانون الأول (ديسمبر) 2004، وصلت أمواج المد الزلزالي ''تسونامي'' الى ساحل الصومال، حيث أتلفت مستوعبات تحوي سوائل سامة على الشاطئ الشمالي للبلاد، يحكى أنها صدِّرتمن ايطاليا وسويسرا خلال الثمانينات. وأفاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن السكان المحليين ابلغوا عن مشاكل صحية ''من التهابات تنفسية حادة، وسعال شديد جاف، ونزف من الفم والبطن، وتفاعلات كيميائية غير معتادة على الجلد، وموت فجائي، إثر استنشاق مواد سامة''. وجاء في تقرير للبرنامج عن الصومال أنه، بدءاً من أوائل ثمانينات القرن العشرين واستمراراً خلال الحرب الأهلية، تشتمل النفايات الخطرة التي يتم التخلص منها على الساحل الصومالي على مخلفات يورانيوم مشعة ورصاص وكادميوم وزئبق ونفايات صناعية وكيميائية ومخلفات دباغة الجلود وغيرها من النفايات السامة.
شارلوت نيتار، رئيسة منظمة Robin des Bois (روبن هود) البيئية الفرنسية، اعتبرت أن الاتجار غير المشروع بالنفايات السامة مستمر ''لأن رجال الاعمال يحاولون الالتفاف على القوانين لتوفير المال. ولو توافرت في الموانئ الأفريقية ضوابطأشد صرامة للتفتيش البيئي والصحي لما دخلت بروبو كوالا الى أبيدجيان''. لكنها ألقت مسؤولية موازية على السلطات الأوروبية: "بلد أوروبي مثل هولندا، لديه خبراء ومرافق للتخلص من النفايات وسلطة موانئ وجمارك وكل شيء آخر، يسمح مع ذلك لتلك الناقلة بالابحار. حريّ بالاوروبيين أن يضبطوا النفايات الخطرة ليس عند وصولها فقط، بل عند مغادرتها أيضاً".
الوحول السامة في أبيدجان فقدت زخمها بعد أقل من شهرين على انكشاف فضيحتها. وقد تولت شركة فرنسية عملية تنظيف المواقع الملوثة، على أن ترسل الوحول في مستوعبات مختومة الى أوروبا (ربما فرنسا) للتخلص منها بطريقة مأمونة. مدير شركة ''ترافيغورا'' ومديرها الاقليمي في غرب أفريقيا محتجزان الآن في أبيدجان حيث يواجهان أحكاماً تنص عليها قوانين ساحل العاج المتعلقة بالنفايات الخطرة والتسميم. لكن الشركة ما زالت تنكر أي مسؤولية.
أما ''بروبو كوالا'' فقد أخلي سبيلها. فماذا تكون شحنتها التالية، والى أين؟
كيف حاصرت غرينبيس الناقلة "بروبو كوالا"
حاصر ناشطو غرينبيس الناقلة "بروبو كوالا" في إستونيا ومنعوها من مغادرة المرفأ، حتى صدر قرار احتجازها رسمياً. قائدة حملة غرينبيس هناك هلن بيريفييه كتبت لـ"البيئة والتنمية" موجزاً لما حصل.
هلن بيريفييه
لم تكن لدى غرينبيس أي خطط للتدخل حين علمنا بتجارة النفايات الخطرة في ساحل العاج. فقد بدأت عملية تنظيف النفايات، وركز العالم انتباهه على القضية. لكن مع تفاقم الأزمة يوماً بعد يوم في أبيدجان، تزايد ميلنا الى الشك في أن الناقلة بروبو كوالا، التي أفرغت النفايات هناك، تواصل طوافها في البحار من دون مراقبة، على رغم القوانين الصارمة التي تمنع تصدير نفايات خطرة من أوروبا الى افريقيا.
تتبعنا تحركات السفينة، فعلمنا يوم السبت في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي أنها رست قبالة ميناء بالديسكي في إستونيا، على أن تدخل الى الميناء في اليوم التالي. وصادف أن كانت إحدى سفن غرينبيس الثلاث في المنطقة، وهي "آرتيك صنرايز" التي تقوم بحملة للتشجيع على إقامة محميات بحرية في بحر البلطيق. وكانت جداول مواعيد سفننا قد أعدت منذ سنة، وتحويل وجهة إحداها بناء على إشعار قصير يتطلب درجة هائلة من الجهد والمرونة على حساب حملة هامة أخرى. لكن قرار إيقاف "بروبو كوالا" لم يتخذ بخفة.
اتفاقية بازل تمنع الشركات في البلدان المتقدمة صناعياً من معاملة افريقيا ومناطق نامية أخرى على أنها مكبّات لنفاياتها. وهي تحمي الشعوب والبيئة في المناطق الفقيرة من صادرات النفايات الخطرة، وتلزم الشركات باحترام وتطبيق الأنظمة البيئية السارية "في بلدانها". ومع ذلك فان "بروبو كوالا" وشركة "ترفيغورا" للاتجار بالنفط، التي تبلغ أصولها بلايين الدولارات والتي استأجرت السفينة، قامتا بنقل النفايات الخطرة من أوروبا الى ساحل العاج، واستمرتا في عملهما المعتاد. رأينا أن الوقت حان لهزّ الحكومات الغربية كي تخرج من حالة الرضا بالوضع الراهن وردعها عن غض الطرف والتعاطي بلا مبالاة مع جريمة شحنات النفايات الخطرة.
بعد ساعة واحدة من قرارنا التحرك في يوم السبت ذاك، رفع بحارة "آرتيك صنرايز" المرساة وتوجهوا شرقاً من ساحل السويد نحو إستونيا. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، حشدنا فرق عمل سياسية وقانونية ومعلوماتية ولوجستية، في أمستردام وبالديسكي وتالين وبروكسل وباريس وغيرها. وهدفنا؟ احتجاز "بروبو كوالا".
صباح الاثنين، رست "آرتيك صنرايز" أمام "بروبو كوالا" وصدَّتها سلمياً من مغادرة ميناء بالديسكي. ووسم ناشطو غرينبيس بدن الناقلة الصدئ بعبارة "مسرح جريمة سامة للاتحاد الأوروبي". وانطلقت التصريحات الصحافية الى أنحاء العالم، وتدفقت الصور عبر وسائل الاعلام. ونبهت اتصالاتنا السياسية المباشرة المسؤولين في ساحل العاج الى موقع "بروبو كوالا". وبدأ فريقنا الأرضي في تالين يقرع باب الحكومة الاستونية، التي كان باستطاعتها احتجاز سفينتنا في أي لحظة بسبب احتجاجاتنا والحصار الذي قمنا به. ولو تحركت ساحل العاج سريعاً بناء على التحقيق الجنائي الذي أجرته، لوفرت للحكومة الاستونية الذريعة القانونية لاحتجاز "بروبو كوالا".
ومع نهاية يوم الثلثاء، واجهت السلطات الاستونية معضلة طريقة. فحين صعدت شرطة الموانئ الاستونية الى متن "آرتيك صنرايز" لاحتجازها، كانت وزارة البيئة تتلقى رسالة إلكترونية من ساحل العاج تطلب احتجاز "بروبو كوالا". فأي السفينتين يحتجزون؟
صباح الأربعاء في 27 أيلول (سبتمبر)، وقف المفوض الأوروبي للبيئة ستافروس ديماس أمام "بروبو كوالا" المحاصرة، وتعهد بأن يصدر اقتراحاً بادانة ممارسات مثل تلك التي تعرض لها ساحل العاج.
وكانت غرينبيس، خلال الساعات الـ48 الأخيرة، فرضت حصاراً على "بروبو كوالا" بسبب وجود كثير من الأسئلة التي بقيت من دون أجوبة في ما يتعلق بالأحداث المأسوية التي أدت الى وفاة ثمانية أشخاص (أصبحوا 10 لاحقاً) وتسمم عدد لا حصر له في ساحل العاج. لقد دمغنا الناقلة كمسرح لجريمة سامة، ولكن يجب تحميل المرتكبين الحقيقيين مسؤولية فعلتهم.
هناك حالياً تعاون دولي حول التحقيقات الجنائية في هذه القضية. ونأمل أن تقام سلسلة جنائية كاملة للحجر على النفايات قضائياً، بحيث يحال المذنبون على العدالة وتحدد الهفوات والسقطات التنظيمية، وتصحَّح، كي لا تتكرر المأساة التي وقعت في أبيدجان.