تواجه الزراعة تحديات كبيرة في شمال السودان، حيث الأرض خصبة والمناخ بارد نسبياً وملائم لمحاصيل كثيرة، خصوصاً القمح. وينعكس ذلك على الملامح الاقتصادية والاجتماعية لغالبية سكان الإقليم الذين ارتبطوا تاريخياً بالأرض وزراعتها.
لم يفلح الكثير من المزارعين التقليديين، أصحاب المشاريع الصغيرة التي تقل عن 20 فداناً، في توفير الأموال اللازمة لزراعة القمح في الشتاء الماضي. وهذا مؤشر آخر إلى احتمال اندثار الزراعة التقليدية لمصلحة الاستثمارات الزراعية الكبيرة، ما لم تدعم الدولة المزارعين.
ويقول المزارعون إنهم ظلوا لسنوات طويلة يكابدون المصاعب والظروف القاسية للاستمرار في الزراعة، وتحديداً زراعة القمح. لكن تحدي ارتفاع أسعار مقومات الإنتاج صار أكبر من تشبثهم بالزراعة وأحبط هممهم. وهم يناشدون الحكومة كي تخطط لدعم الزراعة في المنطقة نتيجة لارتفاع تكاليفها قياساً على الأقاليم الأخرى في البلاد.
وتستخدم الزراعة التقليدية «الوابورات»، أي المضخات، لسحب المياه من النيل إلى أعلى لري الأراضي، التي تتكون من حيازات صغيرة ورثها هؤلاء المزارعون عن أسلافهم الذين كانوا يروونها بواسطة الناعورة. وهم يحرثونها بالثيران التي ما زالت تستخدم جنباً إلى جنب مع الجرارات والماكينات الزراعية الأخرى.
الزراعة صارت فوضوية
المزارع عبدالله محمد بيرم في الثانية والتسعين من العمر، وصف نفسه وهو يقف وسط أرضه في قرية مراقة كابتود بأنه أكبر مزارع ما زال يمارس الزراعة في المنطقة كلها، وقد ورثها عن أسلافه منذ كان يافعاً. وقال إن الفدان كان ينتج له 35 جوالاً من القمح بالوسائل التقليدية (الجوال يعادل 100 كيلوغرام)، لكن هذه الكمية تناقصت حتى وصلت إلى خمسة جوالات فقط . وأضاف أن الزراعة استعصت عليه إلى حد كبير بعد ارتفاع أسعار كل مدخلاتها، ولم يعد هناك التزام بتوفيرها في وقتها المناسب، حتى صارت «مجوبكة» أي تتم بفوضى.
ولم يعد بيرم يعاني من كلفة البنزين، لأنه الآن يستخدم الكهرباء بعد توافرها في المنطقة، وقد قلل ذلك من تكاليف الري بأكثر من 60 في المئة. لكنه لا يزال يعاني من ارتفاع كلفة تحضير الأرض وأجرة الآليات والتسميد والبذور. وهو لم يقم بتحضير أرضه في الوقت المناسب هذا الشتاء، إذ لم يتمكن من إيجاد جرار للحراثة نظراً لارتفاع أجرته من ناحية وعدم توافر الجرارات من ناحية أخرى، فالأهالي باتوا يؤجرون جراراتهم للباحثين عن الذهب في المنطقة، بمن فيهم أبناؤه وأحفاده. ولم تعد الجمعيات الزراعية تقدم المساعدة بكفاءة، بل صارت إدارتها للعمليات الزراعية تتسم بالسوء البالغ والإهمال وعدم الالتزام بالجدول الزمني للعمليات الفلاحية. فبات تعرض المزارع للخسارة أمراً حتمياً في كثير من الحالات.
أما المزارع عبد الكريم محمد صالح في قرية سعديك فقال إن الحكومة الاتحادية قررت في صيف 2010 رفع الدعم عن البنزين، واعدة بأنها ستعمل فوراً على توفير الكهرباء لمزارعي الولاية الشمالية لأنهم الأكثر تضرراً من هذا القرار. لكن الكهرباء لم تصل إليه بعد، وهو ما زال يشتري برميل البنزين بسعر 335 جنيهاً ويضيف إليه زيتاً بقيمة 46 جنيهاً (الدولار يعادل 2,68 جنيه سوداني). وبما أنه يحتاج إلى كميات كبيرة من هذا الخليط خلال الموسم، فإن ذلك يضاعف كلفة إنتاجه ويجعل تحقيقه ربحاً من الزراعة أمراً صعب المنال.
ويزرع صالح نحو 100 فدان، وينتج الفدان الواحد 30 جوالاً من القمح إذا توافرت مقومات الانتاج، و15 جوالاً إذا لم يتم ذلك. وقد يتدنى الإنتاج إلى 9 جوالات فقط في حال استخدم بذوراً غير جيدة أو آلة غير مناسبة لتحضير الأرض. وبناء على تجربة المزارعين العريقة مع القمح، قال صالح إن إنتاج هذه الغلة في مناطق دنقلا والمحس وحلفا يمكـن أن يكـفي حاجة السودانيين من القمح، بل يمكنهم أن يصدروه أيضاً.
وصف صالح القمح، كما كان يفعل أسلافه، بأنه نبات «درويش» أي لا يصاب بالأمراض بسهولة حتى لو تعرض لظروف قاسية، مثل الإنسان الدرويش. كما يعطي إنتاجاً وفيراً إذا ما أحسنت معاملته. ولكن على الدولة أن تدعم زراعته في المقام الأول كي يتحقق ذلك، مضيفاً أن إنشاء بنيات للزراعة وتحضير الأرض وتسميدها وتوفير البذور ومحاربة الآفات وتوفير الآليات، وذلك في الوقت المحدد، أمر يفوق طاقة المزارع البسيط.
لكن أمين الشؤون المالية في المكتب التنفيذي لاتحاد مزارعي الولاية الشمالية، عبد الشافع خبير، اعتبر أن ما يشيعه الكثيرون بأن المزارع ترك أرضه بحثاً عن الذهب غير صحيح، وإنما السبب هو سياسة الدولة وغياب قانون المحاسبة والعدالة والفساد الاداري وعدم توافر الكهرباء. ومع أن هذه الأراضي تشكل مناطق أحواض فيضية خصبة تنتـج قرابـة 45 جـوالاً من القمح في الفدان الواحد، الا أنها مناطق نائية ووعرة.
أضاف خبير: «إذا أردنا تصحيح هذا الوضع وإعادة الزراعة في الولاية إلى مجدها، فلا بد أن تتحمل الدولة جزءاً من الكلفة وتدعم البنزين وتسرع بكهربة المشاريع. ولا بد للحكومة أن تدرس جيداً أسباب ترك المزارع لأرضه، فهو على سبيل المثال يتحمل تحضير أرضه بجرارات تحسب فيها الساعة بـ40 جنيهاً وكلفة البنزين 360 جنيهاً والمبيدات 150 جنيهاً، فضلاً عن «التقاوى» أي البذور ومدخلات الانتاج التي يقترضها من البنك الزراعي بعد فوات أوانها ويعجز عن سداد ثمنها.
زراعة المساحات الواسعة
صار المسافرون الذين يعبرون الولاية الشمالية يشاهدون أعمدة الري المحوري، التي تشبه طيوراً عملاقة ترفرف بأجنحتها، منصوبة على أراض زراعية بعيدة عن مجرى النيل، وهم يتساءلون ما هي. إنها إحدى أنظمة الري الحديثة التي لم تنتشر على نطاق واسع في السودان، ولم يألفها المواطنون بعد.
وأقرّ فتحي خليل، والي الولاية الشمالية، بأن «الزراعة التقليدية التي اعتاد عليها مواطنو الولاية لم تعد مجزية لهم، وهم يحرصون عليها فقط لارتباطهم التاريخي بها». لذلك تسعى الولاية إلى التوسع في الزراعة، وخاصة زراعة القمح، في المشاريع الاستثمارية ذات المساحات الكبيرة التي تلي مجرى نهر النيل. وقد وضعت الولاية خريطة استثمارية للمشاريع الزراعية المقترحة، ولمشاريع التصنيع المرتبط بالزراعة أيضاً. وأشار خليل إلى أن قانون الولاية الاستثماري يعد أفضل من القانون الاتحادي نفسه، إذ يهدف إلى جذب الاستثمارات إلى الولاية. وقد نجحت هذه المساعي وتم إبرام العديد من الاتفاقات للاستثمار في زراعة القمح والأعلاف وغيرها.
وأكد معتمد محلية دنقلا الدكتور الفاتح حسين أن الزراعة تشكل الاستثمار الأساسي في الولاية والدعامة القوية لاقتصادها، حيث تملك كل مقوماتها من مياه وأرض وخبرة ومناخ يتقبل أنواع المحاصيل الشتوية والصيفية على السواء. وأضاف: «يمكن أن تكفي الولاية حاجة السودان ليس من القمح فحسب، بل من غالبية المنتجات الزراعية الأخرى، خصوصاً البستانية والنباتات الطبية والعطرية. والولاية تشجع هذه الاستثمارات».
بحسب الإحصاءات التي ذكرها حسين، يزرع في الولاية الشمالية حالياً 375 ألف فدان فقط، من أصل أربعة ملايين فدان صالحة للزراعة، معظمها في أراضي التروس العليا أو الأراضي البعيدة عن مجرى نهر النيل. وجميعها أراض عالية الخصوبة يمكن استغلالها في مشاريع زراعية كبيرة، خصوصاً لزراعة القمح، حيث أنتج الفدان الواحد 40 جوالاً في مشاريع الري المحوري التي تستخدم نظاماً متكاملاً للمكننة الزراعية أحدث فرقاً كبيراً في الكميات المنتجة.
لكن التوجه إلى الاستثمارات الزراعية الكبيرة لا يجوز أن يلغي الاستثمار في مساعدة المزارعين الصغار. فالزراعة التقليدية التي يمارسونها صديقة للبيئة وللتنوع البيولوجي، وهي أملهم في البقاء بكرامة في أراضيهم وأريافهم، وعدم إهمالها والهجرة إلى المدن حيث ينضمون إلى جحافل الفقراء الحضريين.