بعد انتهاء حرب الخليج الأولى عام 1991 أضيفت مصطلحاتجديدة الى لغة الحرب، لعل أشهرها أسلحة اليورانيوم المستنفد (depleted uranium weapons).أما سبب انتشار الحديث عن هذا النوع من الأسلحة فيعود إلى التأثيرات الصحية الجسيمة التي نتجت عن استخدامها وظهرت بشكل حسّي بين الجنود الأميركيين وغيرهم من ''القوات الحليفة'' في ما بات يعرف بـ ''أعراض حرب الخليج''، وكذلك بين الأطفال العراقيين الذين ولدوا بتشوهات خلقية واصابات سرطانية متنوعة.
المصور الياباني ناومي تويودا، الذي عمل لسنوات مع منظمات يابانية مناهضة للحرب ولاستخدام اليورانيوم المستنفد، زار العراق مراراً قبل الحروب المتكررة وخلالها وبعدها، والتقط آلاف الصور للآليات العسكرية المضروبة بهذه الذخائر المشعة وللأطفال المنكوبين بعلل رهيبة نتيجة تعرض أمهاتهم وآبائهم لاشعاعاتها. تويودا اعد هذا التحقيق المصور لمجلة ''البيئة والتنمية''، ليعرض مشاهداته من خلالها على العالم العربي.
لطالما حظي العراق باهتمام الكتاب والصحافيين والمصورين، حتى قبل أن تصبح أرضه مسرحاً لحروب غيرت وجه هذا البلد المغرق في الحضارة. وكنت من الأشخاص المهتمين جداً بالعراق، وأعتبر نفسي محظوظاً لأنني تمكنت من زيارته عام 1990، قبيل وقوع حرب الخليج الأولى حيث أمضيت نحو شهر للتصوير والتعرف على المدن العراقية. زيارتي الأولى أججت اهتمامي بهذا البلد ورغبتي في زيارته بعد انتهاء الحرب، خصوصاً خلال فترة العقوبات الاقتصادية.
لا يسعني الحديث عن مدى تأثري بالتغيرات التي طرأت على العراق حين زرته ثانية عام 1999. وقد تكون أكثر مشاهداتي إيلاماً رؤية الأعداد الكبيرة من الأطفال الذين ملأوا المستشفيات نتيجة اصابتهم بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية، وبينهم طفل رأيته وقد ولد بساقين ملتحمتين فبات يشبه حورية بحر. وحين سألت الأطباء عن سبب وجود هذا العدد الكبير من الأطفال المرضى والمشوهين، قيل لي إن العدد أصبح في تصاعد مستمر منذ العام 1991. هؤلاء الأطباء، على رغم غياب الأدلة لعدم تمكنهم من اجراء الفحوص المناسبة، يعتقدون جازمين أن السبب يعود الى استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد. فنوعية الاصابات وعددها لا يمكن أن يفسَّر بأي طريقة أخرى، خصوصاً اذا تم الربط بين الفترة التي ظهرت فيها الاصابات وتزايدها منذ ذلك الحين.
أما أكثر المشاهد الباعثة على التأثر فكانت ما بات يعرف منذ العام 1995 بـ ''مقابر الأطفال''، التي لم يكن لها وجود خلال زيارتي الأولى. في البصرة رأيت عدداً من هذه المقابر، وقيل لي إن السبب هو تزايد عدد الوفيات بين الأطفال المرضى وتعذر نقلهم إلى قراهم ومدنهم لدفنهم فيها بسبب ضيق الحال.
إشعاعات في السماوة
هذه التجربة زادتمن اقتناعي بضرورة محاربة أسلحة اليورانيوم المستنفد. لذا، عندما علمت في العام 2003، بعد انتهاء حرب العراق الثانية، بأن اليابان تعتزم ارسال جنودها إلى مدينة السماوة جنوب العراق، قررت زيارة البلاد من جديد للقيام بأبحاثي الخاصة حول هذه المنطقة، وبالتحديد حول امكانية استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد فيها.
خلال وجودي في السماوة رأيت آثاراً ودلائل كثيرة على استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد. وقد تمكنت في احدى المرات من زيارة موقع تم استهدافه قبل يوم واحد، على مرأى مني، برشاشات الطائرات الأميركية. ولدى قيامي بفحص الرصاص المتناثر في المكان بواسطة جهاز قياس الاشعاع، تبين أنه يحتوي على اشعاعات عالية تؤكد وجود اليورانيوم المستنفد. ذلك بالاضافة إلى أنني قمت بفحص عدد من الآليات العراقية المدمرة في منطقة السماوة، وتوصلت إلى النتيجة ذاتها بوجود اشعاعات عالية.
في السماوة تعرفت الى مجموعة من نحو 160 جندياً أميركياً تابعين للحرس الوطني في ولاية نيويورك، أرسلوا الى العراق بسبب حاجة الجيش الأميركي إلى أعداد متزايدة من الجنود. وبحسب ما أخبرني أحد أفراد هذه القوة، ويدعى هيرالدو ماشو، لم يكد يمضي على وجودهم في السماوة أسبوع واحد حتى ظهرت على عدد كبير منهم أعراض أوجاع الرأس والتعب الشديد والاسهال. وقال لي ماشو إن الأعراض كانت شديدة جداً بحيث لم ينفع معها العلاج، مما أعاقه هو وزملاءه عن القيام بمهماتهم، واضطر الجيش الى ارسالهم الى مستشفى في ألمانيا. هناك عالجهم الأطباء مما أفادوا بأنه ''آثار الضغط العصبي بسبب الحر وتغير المناخ''. ولكن، على رغم وجودهم في ألمانيا وخضوعهم للعلاج، فان الأعراض لازمتهم مما حدا الجيش على اعادتهم إلى نيويورك.
بعد عودته إلى بلاده بقي ماشو على حاله. وكان في تلك الفترة يتناول نحو 15 نوعاً مختلفاً من الأدوية التيلم تكن تأتي بأي نتيجة. وعلى رغم معاناته، ورغبة منه في استكمال مسار حياته، تزوج ماشو ليرزق بعد فترة بطفلة. لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة. فخلال فترة الحمل، عندما كانت زوجته في الشهر الخامس، أظهرت الصور الاشعاعية أن الطفلة مصابة بتشوه، وقد ولدت بلا أصابع في يدها اليمنى.
في غياب أي سبب واضح لهذا التشوه، وفي ظل ما كان يحكى عن استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد خلال وجود ماشو في العراق، لجأ هو وعدد من رفقائه الى احدى الصحف النيويوركية المحلية التي قامت، على نفقتها الخاصة، باجراء الفحوص لوجود اليورانيوم المستنفد في أجساد هؤلاء الجنود. وأتت النتائج ايجابية بالنسبة الى أربعة منهم، بينهم ماشو.
نشرت الصحيفة تفاصيل الفحوص ونتائجها، الا أن الموضوع لم يلقَ الضجة الاعلامية المناسبة، ربما لكونها صحيفة محلية محدودة الانتشار. فقام ماشو برفع دعوى ضد الجيش الأميركي لتعريضه لليورانيوم المستنفد، لا تزال عالقة في المحاكم حتى اليوم.
في رأيي، وبناء على مشاهداتي، قد تكون قصة الجندي ماشو واحدة من حالات كثيرة لم ترَ النور. فأنا قابلت ماشو بمحض المصادفة، وتابعت حالته باهتمام وجهد فرديين. لكنني أعتقد أن من المفيد متابعة حالة الجنود العائدين من العراق، وتجميع المعلومات حولهم، مما يعزز الضغوط لوقف استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد، التي لا تميز في الأذية بين مُلقيها ومتلقّيها.
لكنني لست متفائلاً كثيراً. فأنا أعلم أن الجنود اليابانيين، على سبيل المثال، ممنوعون بتاتاً حتى من التحدث عن تجربتهم في العراق أو التعليق عليها عبر وسائل الاعلام.
في كل الأحوال، الرسالة بدأت تلقى آذاناً صاغية ومبادرات عملية من المجتمع الدولي وتحرك منظمات المجتمع الأهلي. وآمل أن تأخذ البلدان التي يمكن أن تكون تعرضت لذخائر اليورانيوم عبرة من تجارب العراق وأفغانستان، وألا تأخذ هذه الأمور الرهيبة بخفة لأن سنوات مضت قبل اكتشافها والاعتراف بها... وإلا فالنتيجة مشاهد تشبه الصور التي ترونها في هذا المقال.