حين أصابت أنواع نادرة من السرطان والتشوهات الجسدية آلاف الأطفال العراقيين في منتصف التسعينات وبدأوا يموتون بنسب تفوق المعدلات الطبيعية بأضعاف، علق الدكتور ماكس باركن، الذي أرسلته منظمة الصحة العالمية لدراسة هذه الظاهرة، أنه ''لا توجد اثباتات علمية كافية، لأن أجهزة الكومبيوتر المستخدمة في العراق لسجلات أمراض الأطفال ووفياتهم قديمة لا يمكن الوثوق بأرقامها''. لكن آلاف البشر استمروا في السقوط ضحايا للمرض والموت، على الرغم من أرقام أجهزة الكومبيوتر القديمة. فلم تكن هناك حاجة الى كومبيوتر، أو حتى إلى آلات حساب، لرؤية المرضى والمشوهين والموتى بالعين المجردة.
وتبين لاحقاً صحة ما حذرت منه هيئات علمية مرموقة وناشطون بيئيون من أن عشرات آلاف القذائف ذات الرؤوس المصنوعة من اليورانيوم المستنفد، التي أطلقتها قوات التحالف خلال حرب الخليج عام 1991، تسببت في ارتفاع المستويات الاشعاعية في الهواء والتراب، خاصة في المناطق الجنوبية، من البصرة إلى صحراء الكويت. وكان واضحاً أن معدلات الاصابة بالسرطان ارتفعت في هذه المناطق بالذات، مما أثبت ارتباطها بالنشاط الاشعاعي.
ومع تجاهل المشكلة على المستوى الرسمي، بقيت الآليات العراقية المقصوفة باليورانيوم المستنفد مرمية في الصحراء، وتحولت إلى ''متاحف حرب'' مكشوفة يزورها الناس بلا وقاية، إلى أن تم بعد سنوات جمعها في ''مدافن'' صحراوية.
عند انتهاء الحملة الأطلسية على يوغوسلافيا في نهاية التسعينات، تصاعد الحديث عن أعراض نادرة بين السكان والجنود. ومرة أخرى حذرت هيئات علمية وبيئية من آثار محتملة لليورانيوم المستنفد، لكن لم يتم الاعتراف باستخدامه إلا بعد سنوات، حين تبين أن عشرات آلاف القذائف المصنوعة منه ألقيت على أراضي البلقان، وعلى الأخص كوسوفو.
في البداية، تم تجاهل المشكلة كلياً. وصدر عام 1999 تقرير دولي أكد أن جميع الفحوصات التي أجريت في مناطق البلقان أثبتت خلوها من أية آثار لليورانيوم المستنفد. عام 2000، اعترفت الدول المشاركة في حرب البلقان باستخدام عشرات آلاف قذائف اليورانيوم المستنفد، منها 03 ألفاً في كوسوفو وحدها. أجرت المنظمات الدولية فحوصاً جديدة، وأصدرت تقريراً يشير إلى وجود نشاط اشعاعي ضئيل وبقايا يورانيوم مستنفد، لكنه ''لا يشكل ضرراً على الصحة ولا يستدعي الخوف''. وبين عامي 2001 و2002 أجريت فحوص جديدة من الهيئات الدولية نفسها، أكدت وجود مستويات عالية من الاشعاع في بعض المواقع، تتطلب إجراء عمليات تنظيف ومعالجة لمنع تسببها بتلوث المياه الجوفية. وقد أشار تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2001 إلى اكتشاف آثار من مادة البلوتونيوم، وليس اشعاعات اليورانيوم المستنفد فقط، في عينات تم جمعها في البلقان. واستنتج التقرير أن مصدرها من مفاعلات لانتاج الوقود النووي. والشائع أن معدن اليورانيوم المستنفد الذي يستخدم في رؤوس القذائف هو عادة من فضلات مصانع انتاج الطاقة النووية وليس من فضلات الوقود المخصب الخاص بالاسلحة النووية.
خلال كتابة هذه التقارير عن البلقان، كانت أطنان من قذائف اليورانيوم المستنفد تلقى على أفغانستان في الحرب التي بدأت في تشرين الأول (اكتوبر) عام 2001. وعلى الرغم من الدلائل القاطعة التي سجلتها هيئات علمية ومنظمات بيئية وإنسانية عن ارتفاع الاصابات السرطانية والتشوهات، لم ينشر حتى اليوم أي تقرير رسمي عن الآثار المحتملة لليورانيوم المستنفد في أفغانستان. وقد أكد لنا روبرت فسك، الصحافي الاستقصائي العالمي الذي زار المناطق المقصوفة في أفغانستان، أن ما شاهده هناك من تشوهات واصابات يفوق الوصف.
وجاءت حرب العراق عام 2003 لتضيف أطناناً جديدة من قذائف اليورانيوم المستنفد، غطت هذه المرة البلد كله ولم تقتصر على مناطقه الجنوبية. ومع أن وزيرة البيئة العراقية نارمين عثمان أكدت لمجلة ''البيئة والتنمية'' في شباط (فبراير) 2006 اكتشاف مئات المواقع الملوثة بالاشعاع، إلا أنه، بعد أكثر من 15 سنة على الحرب الأولى وثلاث سنوات على الثانية، لم يصدر أي تقرير دولي رسمي عن الموضوع.
من الانكار الكامل في البلقان، إلى الاعتراف بتلوث اشعاعي واسع والمطالبة بالتنظيف والحيطة... من التجاهل في العراق، إلى تأكيد رسمي على اكتشاف مئات المواقع الملوثة إشعاعياً.
وتلفت النظر عبارات شائعة في بعض التقارير التبريرية من نوع: ''المستويات المنخفضة من الاشعاع التي لا تشكل خطراً'' أو ''المستويات المشابهة لليورانيوم الطبيعي''. ليست هذه عبارات جديدة، فقد قرأناها سابقاً في تقارير البلقان الانكارية عام 1999. لكن هل يوجد مستوى مقبول من التلوث الاشعاعي، ومن يقرره؟ وماذا يعني، أساساً، ''مستوى التلوث المقبول''؟ هل كان علينا أن نطلب من المرضى والمشوهين وأهالي الذين ماتوا بالتلوث الاشعاعي في العراق الانتظار عشر سنوات أخرى لنشر تقارير المختبرات الرسمية الدولية حتى نصدر شهادة وفاة؟
واجب هيئات البحث العلمي إعطاء المعلومات الصحيحة والدقيقة في الوقت المناسب، مع احترام كرامة الانسان. فان تقاعسها عن أداء هذه المهمة بكفاءة هو ما يؤدي إلى الهلع، وليس تحذيرات الهيئات البيئية الناشطة. والتقاعس عن تقديم تقارير دقيقة يفسح المجال لبعض هواة العلم والصحافة لنشر معلومات مثيرة تجافي الحقيقة ومبادئ العلم. واذا اعتبرنا أن اصدار نتائج حاسمة عن التلوث الاشعاعي يتطلب وقتاً، فمن غير المقبول الاستخفاف بعمل هيئات بيئية أثبتت صدقيتها، ودحض ملاحظاتها لمجرد أنها لا تنتمي إلى المؤسسات الرسمية. ومن غير المقبول أيضاً أن تنتظر مؤسسات البحث العلمي الرسمية شهوراً لاصدار تقرير يؤكد خلو الأسماك من التلوث، مثلاً، بعد كارثة تسرب نفطي. أليس من الأجدى إجراء الفحوصات واعلان النتائج سريعاً، والمتابعة بتقارير دورية أسبوعياً؟
والمفارقة أن بعض المؤسسات الرسمية في بلداننا لا تكتفي بعدم القيام بمهمتها ونشر النتائج لارشاد الجمهور في الوقت المطلوب، بل تحاول منع غيرها من سد الفراغ. انها لا تقوم بالعمل من تلقاء نفسها، ولا تسمح لأحد أن يساعدها في انجازه، وترفض أن تخلي الطريق لغيرها للقيام به.
لولا العمل الدؤوب لعلماء يحترمون كرامة الانسان، مثل كريس باسبي في بريطانيا ونوبو كازاشي في اليابان، وضغط المجتمع الأهلي وبعض وسائل الاعلام، لكانت المؤسسات الرسمية، من علمية وسياسية ومحلية ودولية، ما تزال تنكر وجود آثار لليورانيوم المستنفد في كوسوفو والعراق.
نتمنى أن يكون كريس باسبي مخطئاً هذه المرة حول آثار اليورانيوم المستنفد في لبنان.