أضحى مشكل تلوث البيئة، ضمن قضايا دولية هامة أخرى كالديموقراطية وحقوق الانسان والتنمية ومكافحة الارهاب، يتصدر قائمة اهتمامات الباحثين ورجال السياسة والرأي العام الدولي على حد سواء، بعدما عمرت الحرب الباردة في الأوساط الدولية بهواجسها العسكرية والايديولوجية زهاء نصف قرن.
فأمام التحذيرات التي أصدرها العلماء في دراساتهم المتباينة المجالات، والتي أجمعت كلها على أن البيئة بكل عناصرها في خطر، بدأ المجتمع الدولي بكل مكوناته من دول ومنظمات وجمعيات ورأي عام، يقر بأهمية تضافر الجهود الدولية لمواجهة هذا المشكل، وبالتالي بدأ الهاجس يحتل مركزاً متقدماً من السياسات الدولية.
ولقد كان لحادث "تشيرنوبيل" النووي سنة 1986 أثر كبير في تنامي الوعي الدولي بأهمية المجال الحيوي، فهذا الحادث الخطير الذي تجاوزت تداعياته الاتحاد السوفياتي (سابقاً) الى باقي دول أوروبا، أكد أن تلوث البيئة لا يراعي الحدود الدولية، وهو ما أسهم في الحد من اطلاقية مفهوم سيادة الدول. وأمام هذه المخاطر لم يعد هناك مجال للدول لتتوارى خلف سيادتها عند الحديث عن هذا المشكل، ولعل هذا ما طرح بحدة ضرورة إثارة مسؤولية الدول ومحاسبتها في مثل هذه الأحوال الضارة بالبيئة.
وهكذا جاء مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية، أو ما يعرف بقمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، لتدارس هذا المشكل وتكريس نوع من التنسيق الدولي لمواجهة التلوث. وقد شكل هذا المؤتمر مناسبة لمنح الأمم المتحدة دوراً كان مسلوباً منها، رغم خطورته على السلم والأمن الدوليين، ولنقل الاهتمام بهذا المشكل من المختبرات العلمية ودهاليزها إلى أروقة السياسة الدولية.
ورغم أن هذا المؤتمر شكل منبراً للتراشق بالتهم بين دول الشمال والجنوب حول المسؤولية عن هذا التلوث، إلا أن مداولاته تمخضت عن مجموعة من التوصيات والتدابير التي حاولت التوفيق بين التنمية وحماية البيئة.
وبعد عقد من الزمن جاء مؤتمر جوهانسبورغ عام 2002، ليكشف من جهة هزالة حصيلة هذه الفترة في مجال مكافحة تلوث البيئة وتحقيق تنمية مستدامة. غير أن النتائج التي تمخضت عن هذا المؤتمر لم ترق الى مستوى الآمال والطموحات التي عقدت عليه، وهو ما خلف نوعاً من الاستياء في أوساط المنظمات الدولية غير الحكومية المهتمة بالشأن البيئي والرأي العام الدولي.
إن مقاربة هذا المشكل الخطير لم تخل من مشاكل ومعيقات أسهمت فيها الخلفيات السياسية المتباينة للدول، بالشكل الذي انعكس سلباً على نجاعة هذه المقاربة وأسهم في مزيد من التدهور البيئي. فإذا كانت البيئة في نظر البعض تمثل قضية ذات أولوية تستدعي البحث عن حل كفيل بوقف تدهورها، فإن البعض اعتبرها مصدر ثروة واستغلها بشكل مبالغ فيه وغير عقلاني.
إن تحقيق تنمية مستدامة تلبي احتياجات الوقت الحاضر اقتصادياً واجتماعياً دون الإخلال باحتياجات الأجيال المقبلة ومحيطها البيئي، أصبح يتطلب نوعاً من التضامن بين الشمال والجنوب خدمة للبشرية جمعاء، عوض الخوض في التراشق بالتهم. غير أن هذا التضامن ينبغي أن يكتسي طابعاً أخلاقياً وبناء على المبدأ القاضي بالتساوي في المصالح، لكن بمسؤوليات مختلفة.
والدول الكبرى تظل، بالنظر الى صناعاتها المتطورة، المسؤول الأكبر عما يلحق البيئة من دمار. ويكفي أن نشير مثلاً الى أن ما يحدثه مواطن أميركي واحد من خلل بالبيئة يوازي ما يحدثه 13 مواطناً برازيلياً و35 هندياً و280 تشادياً.
كما أن استهلاك الفرد في الولايات المتحدة من الطاقة يعادل 20 مرة ما يستهلكه نظيره في الهند و80 مرة ما يستهلكه الفرد في دول افريقيا جنوب الصحراء. ومن جهة أخرى، تملك الدول الكبرى من المقومات والامكانيات ما يجعلها أكثر قدرة على مواجهة التداعيات الخطيرة لتلوث البيئة (أعاصير، فيضانات، تلوث أنهار...) علماً أن العديد منها تمتنع أو تتحفظ أحياناً عن المصادقة على اتفاقيات دولية هامة في هذا الصدد، كما هو الشأن في الولايات المتحدة التي امتنعت عن التوقيع على بروتوكول "كيوتو" للحد من انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ.
إن الفقر يعدّ بحق أحد أسباب الدمار البيئي الرئيسية وعائقاً للتنمية المستدامة التي تعد مبدأ أساسياً في السياسة البيئية الدولية. ولهذا فعلى الدول الكبرى، وفي خطوات دولية تضامنية، أن تقوم بإلغاء ديون البلدان النامية، باعتبار ذلك عائقاً للتنمية وسبباً لتنامي التلوث، أو مقابل إنشاء محميات طبيعية في هذه الدول، أو تمكينها من مساعدات مالية وتقنية، وهي خطوة واجبة أكثر منها عملاً خيرياً.
إن هذه الخطوات الجماعية والتضامنية تظل ملحة، وذلك لطمأنة الدول الضعيفة التي طالما أبدت قلقها من أن تصبح المحافظة على البيئة الوسيلة الشرعية الجديدة للقضاء على ثروات مصدري البترول أو أن يكون ذلك على حساب التنمية في هذه البلدان.
ومن الضروري دعم نقل التكنولوجيا العالية الجودة الى هذه الدول، والاقرار بمبدأ أن من يقوم بتلويث البيئة عليه دفع تكاليف إصلاحها، زيادة على منح الأمم المتحدة صلاحيات كبرى وفعالة في مجال التدخل الزجري الموضوعي لمعاقبة المسؤولين عن تلوث البيئة.
كما أن التنمية، باعتبارها مطلباً إنسانياً ملحاً، يجب أن توجه وتهذب باتجاه خدمة البشرية في الحاضر والمستقبل، بدل ترك شؤون ادارتها في يد زمرة من مستهدفي الربح السريع و"لوبياتهم"، ولو على حساب دمار البيئة التي تعني بكل تأكيد دمار الانسانية.
الدكتور إدريس لكريني أستاذ جامعي في كلية الحقوق، مراكش، المغرب.