بينما كانت الأمم المتحدة تعلن من برلين عن نتائج دراسة آثار حرب الصيف الاسرائيلية على البيئة، كانت غيمة سوداء ملوثة تغطي سماء لبنان. ففي ذلك ''الثلثاء الأسود'' من كانون الثاني (يناير)، تم إحراق عشرة آلاف اطار مطاطي على طرق لبنان، بهدف قطعها. قد نتفق مع أهداف المحتجين أو نعارضها، لكننا بالتأكيد نستنكر الأسلوب.
في اللحظة نفسها حين كان المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة آخيم شتاينر يعرض خطة تهدف الى مساعدة لبنان على معالجة التدمير البيئي الذي جرّه العدوان الاسرائيلي، اختار لبنانيون التعبير عن مواقفهم بالامعان في تدمير بيئة بلدهم، ربما من حيث لا يدرون، وبأيديهم هذه المرة.
كانت استجابة الأمم المتحدة لاستغاثة لبنان البيئية سريعة عقب العدوان الاسرائيلي. فأرسلت فريقاً من الخبراء الذين أجروا دراسات دقيقة للأضرار، وفحصوا الماء والهواء والتراب لكشف مستويات التلوث، وأعدوا تقريراً مفصلاً بالنتائج والتوصيات. كان من المقرر اطلاق الدراسة في بيروت في منتصف كانون الأول (ديسمبر). لكن الأحداث أخرت الموعد، الى أن قررت الأمم المتحدة الكشف عن النتائج والتوصيات من برلين، قبل يومين من موعد مؤتمر باريس لدعم لبنان، وذلك تشجيعاً للمجتمعين على دمج البرامج البيئية في خططهم ومساعداتهم.
شعرت بالأسى وأنا أتابع، مباشرة عبر الانترنت من برلين، المؤتمر الصحافي حول لبنان لآخيم شتاينر، بينما الدخان الأسود من حرائق الاطارات المشتعلة يغطي لبنان. فماذا نقول للعالم، نحن الذين ساهمنا في حشد الدعم الدولي للبنان في محنته البيئية بعد الحرب؟
بحساب بسيط: تم إحراق أكثر من عشرة آلاف إطار مطاطي خلال 12 ساعة، وزنها نحو مئة طن. نتج عن هذا انبعاث نحو 300 طن من الدخان، الذي يحوي جزيئات الغبار وأول أوكسيد الكربون والكبريت، اضافة الى الرصاص والزئبق والكروم والكادميوم والزرنيخ، عدا الآثار المباشرة على جهاز التنفس. ما هي المضاعفات الصحية المنتظرة حين نعلم أن 25 في المئة من المواد التي تصنع منها إطارات السيارات تسبب أمراضاً سرطانية عند الاحتراق؟
نحو 300 طن من الأدخنة السامة اقتحمت صدور اللبنانيين خلال 12 ساعة، وعاثت تلويثاً في التراب والماء والهواء، سيستمر أثره طويلاً. ولن تختفي أخطار التلوث في 12 ساعة، على الرغم من انحسار غيمة الرعب صباح اليوم التالي، وقيام عمال التنظيفات والأهالي بغسل الطرقات والجدران.
خلال ذلك اليوم البيئي الأسود، سجلت أجهزة قياس الهواء في بيروت، التي تشرف عليها مختبرات جامعة القديس يوسف، ارتفاعاً في مستويات الجزيئات السامة تجاوز الحدود المسموحة بعشرين ضعفاً. وما كدنا ننتهي من حساب تلويث الهواء من حرائق الاطارات، حتى صدمتنا على شاشة التلفزيون مشاهد لشاحنات تقطع الطرق بردميات من بقايا الحرب. وتذكرنا تحذير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، قبل ساعات، من أخطار الردميات، المختلطة بغبار الاسبستوس (الأميانت). وسرعان ما صدمنا مشهد آخر لتفريغ شاحنات نفايات تم استحضارها من المكبات لحرقها وسط الطرقات العامة. وكانت آلاف مستوعبات النفايات قد أحرقت بمحتوياتها خلال يوم العار البيئي.
هل يريدنا البعض أن نصدّق أن هذه هي أساليب بديلة لتدوير الاطارات وإدارة النفايات؟ هذا رعب بيئي. واذا كان مفهوماً ان يتسبب عدو بتدمير البيئة، فكيف يمكن لمواطنين أن يسمموا أنفسهم وبيئتهم بأيديهم؟
نرجوكم أيها السادة، الثائرون باسم الأرز أو الشوح أو البلوط: إبحثوا عن أساليب غير ملوثة للتعبير عن آرائكم، وحيّدوا البيئة عن نزاعاتكم.
فلن يمنحكم علم ترفعونه فوق السنة اللهب مغفرة للخطايا، لأن من الحب ما قتل.
|