كثيرون ممن شاهدوا غابة أرز تنورين – حدث الجبة – كفور العَرْبي على امتداد العقد الأخير من القرن الماضي، ثم يشاهدونها الآن، وكيف من غابة صهباء متجهمة، متجهة بصورة حثيثة إلى اليباس، عادت شديدة الاخضرار، لا بد من أن يتذكروا منذر داغر. منذر الذي ارتحل في الثامن عشر من الشهر الأول من هذا العام، وهو يكاد لم ينجز معاملات تقاعده كأستاذ للفيزياء في الجامعة اللبنانية، وفيما كان عاقداً العزم على التفرغ نهائياً لاهتمامات طالما كانت شغله الشاغل، ولا سيما في العقدين الأخيرين، أعني تلك المتعلقة بحماية البيئة في لبنان.
وقد قيّض لي أن أعاين عن كثب جانباً من تجربته، أنا التي سبق أن نقل إليّ، مثلما فعل مع العديد من معارفه وأصدقائه والقريبين إليه، بعضاً من هذا الهم الذي وصل لديه إلى حدود الشغف شبه الصوفي. حصل ذلك حتى قبل أن يقنعني، كما آخرين غيري، بالانتساب إلى "تجمّع أصدقاء أرز تنورين"، الجمعية التي أسّسها في خضمّ كفاحه لإنقاذ غابة الأرز في مرتفعات تنورين الشمالية وهضاب البلدات المجاورة.
فعلى مدى سنوات من العمل المشترك معه في هذا المجال – الذي أعترف أن دوري فيه، مثل أدوار الأعضاء الآخرين في الجمعية، كان متواضعاً ـ كان يتحمّل دائماً العبء الأساسي، تفكيراً وتخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة مع الأوساط المختصة في لبنان وحتى في الخارج. مثال على ذلك حين استقدم في ربيع 1998 خبيراً فرنسياً في إنقاذ الغابات، هو الأستاذ غي دو مولان، لأجل اكتشاف حقيقة الحشرة التي كانت تهاجم غابة الأرز وتهدّد بالقضاء عليها. وقد تبيّن أنها نوع غير معروف سابقاً من فصيلة السيفالسيا، سوف يتمّ التوافق لاحقاً على تسميته "سيفالسيا ليباننسيس" نسبة إلى لبنان. ومن ثم حين لعب دوراً أساسياً في تسهيل التغطية المادية المكلفة لمعالجة تلك الآفة، ولا سيما أن ذلك استوجب مجيء فريق فرنسي، مع مروحية خاصة برش الغابات، بسبب وجود ألغام باقية من مرحلة الحرب الأهلية في أماكن شتى من غابة الأرز، بحيث "لا مجال للتفكير بأعمال الرش على الأرض بواسطة التدخين، أو التبخير، أو على الظهر"، كما ذكر دو مولان في التقرير الذي وضعه بعد إنهاء مهمته، مضيفاً أن "المروحيات وحدها يمكن أن تدخل في تصورنا". وقد تكرر مجيء الفريق مع المروحية الفرنسية عام 2000، فيما تكفّل الجيش اللبناني ببقية المهمة في سنوات لاحقة، بواسطة مروحية عسكرية خاصة به.
ولقد قرأت تقرير دو مولان، ورسالته إلى وزير الزراعة في العام 1998 التي يضمّنها شرحاً لمهمته، مع التوصيات الملازمة. ولاحظت كثرة تردّد اسم "أصدقاء أرز تنورين" في التقرير كما في الرسالة، وقد باتوا، بحسب دو مولان، "علماء حشرات"، واضطلعوا بدور نشط جداً، لا بل حاسم، في إنجاح مهمته. وفي الواقع، كان منذر يضطلع بالجزء الأكبر من العمل، وأحياناً به كله، متخفياً وراء الإسم الجماعي. كان في السنوات الأخيرة من حياته "أصدقاء أرز تنورين"!
في الرسالة إلى وزير الزراعة اللبناني، حذّر الخبير الفرنسي من كوارث قد تصيب غابات الأرز في لبنان، ولكن أيضاً في "كامل حوض البحر المتوسط". كأن تظهر مثلاً بجانب حشرة سيفالسيا ليباننسيس حشرات أخرى، ولا سيما آكلات الخشب، "لأنه هل ثمة من يعرف آكلات الخشب الكامنة في غابات الأرز اللبنانية؟ ومن سيعرف كيف يقتلها إذا هي ظهرت؟"
وقدّم دو مولان توصيات عدة، منها قوله: "حتى إذا لم أكن داخلاً إلا في عقد أخلاقي معكم، وبوجه خاص مع أصدقاء أرز تنورين الذين دعوني، أتمنى بمودة لكل لبنان، ولكن أيضاً لأشجار الأرز، أن يجري التفكير بصورة طارئة وملحة وتحت إشرافكم، بإرساء "خلية أفكار وتأملات" لا تتعلق فقط بمجموعة غابات الأرز اللبنانية، بل أيضاً بغابات الأرز في كامل البحر المتوسط".
"خلية الأفكار والتأملات" هذه، وتوصياتٌ غيرها، بقيت حبراً على ورق. وإن أفضل تحية وفاء لذكرى منذر داغر هي أن يهتم رفاقه وأصدقاؤه البيئيون، في لبنان، بإخراج هذا المطلب الحيوي من الأدراج المقفلة، والسعي الحثيث للانتقال به إلى التنفيذ.
|