الأطفال يركضون جيئة وذهاباً حاملين "غالونات" فارغة، فيما أمهاتهم يوضبن الغالونات المملوءة بالماء في عربات اليد. وحمار ينتظر على جانب الطريق لكي يحمّله صاحبه براميل الماء، فيما يطلق سائق صهريج بوقه لاخلاء الطريق. الجمع ينتظر انتهاء زهية وبناتها من تعبئة آخر غالون من نبع بلدة تنوره. قالت لنا زهية: "كل هذا العناء من أجل تعبئة قليل من الماء الذي لا أستعمله الا لمسح الأرض. فهو ملوث جداً، حتى أنني لا أغسل به ملابس العائلة".
هذه البلدة اللبنانية في قضاء راشيا لا تعاني فقط من نقص المياه، بل من جميع المشاكل المتعلقة بالمياه. فمنازلها لم تصلها امدادات المياه البلدية، والمياه الجوفية في خراجها عميقة جداً مما يجعل استخراجها غير اقتصادي. ونبع البلدة، الذي كان المصدر الوحيد للشرب، بات ملوثاً بمياه الصرف الى حد لا يمكن استعمال مياهه في غسل الصحون أو حتى الملابس، بل فقط لتنظيف الأرضيات وري نباتات الزينة خلال فصول الصيف الجافة الطويلة في وادي البقاع.
ويترتب على أهالي تنوره شراء المياه التي تنقلها شاحنات صهريجية بكلفة 10 دولارات لكل 2000 ليتر، ما يرهق كاهل العائلات التي تعيش بدخل شهري لا يتجاوز 450 دولاراً كمعدل وسطي، وتحتاج الى أربع حمولات في الشهر. وبما أن بعض المقيمين لا يستطيعون تحمل هذا العبء، كان عليهم أن يتبعوا سلوكيات مقتصدة. فمعظم العائلات تعيد استعمال المياه مرتين أو ثلاث مرات قبل تصريفها في الحفرة الصحية. على سبيل المثال، تجمع مياه غسل الصحون والملابس لتنظيف الأرضيات، ومن ثم تجمع من جديد لاستعمالها في المراحيض. والحقيقة أن أحواض الجلي ومرشات الاستحمام (دوش) ليست خياراً شائعاً في منازل البلدة، لأنها تستهلك كثيراً من المياه ولا يسهل تجميعها لاستعمالها مجدداً.
لو كانت هناك مسابقة لإدارة الطلب العالمي على المياه، لفازت بلدة تنوره بالجائزة الأولى!
وعود انتخابية
زودت بلدة تنوره بشبكة أنابيب وخزانين عموميين للمياه منذ أربعين سنة، تم استبدالها بعد 20 سنة اذ تشققت لعدم ضخ المياه فيها. وحتى الآن لم تصل قطرة الى منازل أهل تنوره، لأن شبكتهم لم توصل بشبكة مياه شمسين التي تزود قضاء راشيا بمياه الشرب. وأخبرنا رئيس البلدية مفيد أبو زور أن "الشبكة والخزانين باتت الآن صدئة من جديد لأنها لم تملأ بالمياه على الإطلاق. والأهالي فقدوا الأمل بحل مشكلتهم، وباتوا لا يثقون بأي مشروع مقترح".
منذ عشرين عاماً وبلدية تنوره تحاول حل عقدة المياه بالتعاون مع شخصيات نافذة في المنطقة. ولكن حتى الآن لم ينفذ أي مشروع بشكل كامل ولم يتم الوفاء بأي وعد. في موسم الانتخابات كل أربع سنوات، تقترح المشاريع وتُقطع الوعود وتراود الأهالي الآمال، لكن شيئاً لم يتحقق. وقال أبو زور بمرارة: "آخر هذه الوعود أتى من رئيس مجلس النواب نبيه بري نفسه منذ أربع سنوات. ظننا أن ذلك سيضع حداً لمعاناتنا، ولكن كالمعتاد كانت كلها وعوداً في الهواء".
عام 2006 أتى ببعض الأمل لأهالي تنوره، عندما شرع مركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة (MECTAT) في تنفيذ مشروع لمعالجة "المياه الرمادية" الناتجة عن أحواض الجلي في المطابخ وغسالات الملابس واحواض الاستحمام، واعادة استخدامها كمورد موجود لم يستغل حتى الآن ويمكنه توفير مياه الري وتعزيز انتاج المزروعات الغذائية في الحدائق المنزلية.
يستفيد من المشروع 30 منزلاً في البلدة. وقد زوِّد كل منزل مجموعة من ثلاثة أو أربعة براميل، تعالج فيها المياه الرمادية لاهوائياً، ومن ثم تضخ الى شبكة للري بالتنقيط تركب في الحديقة. تقول أمل سرحال: "بفضل مشروع المياه الرمادية، أستطيع الآن الاستفادة من حديقتي القاحلة، فأزرع الخضر والفاكهة لاطفالي باستعمال المياه التي نستهلكها في المنزل، من دون كلفة أو جهد".
تمكين النساء
المشروع المياه الرمادية، الذي يموله المركز الدولي لبحوث التنمية في كندا (IDRC)، ليس مجرد بحث علمي، وانما ينطوي أيضاً على عنصر اجتماعي وتثقيفي تشاركي هدفه تحسين نوعية حياة الأهالي. ويتم تمكين النساء من خلال دورات تدريبية ونشاطات تتطلب اتخاذ قرارات. تقول إخلاص: "بفضل التدريب على تصنيع المأكولات أصبحت قادرة على توفير المال بتحضير مؤونة العائلة". أما عتاب التقي، التي يبلغ عمرها 18 سنة وهي عضو في لجنة المستفيدين من المياه الرمادية، فتأمل أن تحفز مشاركتها في اللجنة نساء أخريات على المساهمة في تحسين بيئة بلدتهن.
ان نجاح مشروع المياه الرمادية في تنوره وتسع بلدات أخرى في قضاء راشيا، من شأنه أن يشجع الحكومة على تبني مشاريع صغيرة لمعالجة المياه الرمادية يسهل تنفيذها وتعم قائدتها على المستويين المنزلي والمجتمعي.
بلدة تنورة ليست استثناء في العالم العربي، فهناك ألوف البلدات التي تعاني من المشاكل ذاتها، حيث الاهمال السياسي يبقي نقص المياه قضية حياتية حتى في هذا العصر الحدث.
كادر
تكنولوجيا بسيطة لمعالجة المياه الرمادية
أربعة براميل بلاستيك (PE) تصل بينها أنابيب بلاستيك (PVC) تشكل وحدة معالجة المياه الرمادية. البرميل الأول يفصل الشحوم والزيوت والجوامد، وكذلك يعمل كحجرة معالجة مسبقة أو أولية، حيث تترسب في أسفله الجوامد التي تحملها المياه الرمادية، وتطفو على السطح المكونات الخفيفة مثل الشحوم ورغوة الصابون. هذا البرميل مزود بغطاء واسع يسمح بتنظيفه من المواد الطافية والمترسبة.
بعد احتباس الجوامد المترسبة والمواد الطافية في البرميل الأول، تدخل المياه الأنقى نسبياً الى أسفل البرميل الثاني. ومن ثم تدخل من أعلى البرميل الثاني الى أسفل البرميل الثالث، وتنتقل الى البرميل الرابع بالطريقة ذاتها. في البرميلين الأوسطين، تعمل بكتيريا لا هوائية على تفكيك المواد العضوية الموجودة في المياه. ويكون البرميل الأخير بمثاية خزان للمياه المعالجة. وعندما يمتلئ، تشغل عوّامة (فوّاشة) مضخة تدفع المياه المعالجة عبر شبكة للري بالتنقيط في حديقة المنزل حيث تسقي 20 الى 30 شجرة مثمرة او تشكيلة من الخضار والبقول الصيفية.
وقد بينت النتائج المخبرية ان الري بالمياه الرمادية المعالجة مأمون وليس له تأثيرات بيئية وصحية.