يعكف العالم المصري الدكتور عبد الفتاح القصاص على تحضير سلسلة مقالات حول "العلم وتنمية الموارد الطبيعية في الوطن العربي" للنشر تباعاً في مجلة "البيئة والتنمية". وهذا هو المقال الأول ضمن السلسلة.
تخرج الدكتور القصاص عام 1950 في علم النبات من جامعة كامبريدج، ومذ ذاك لم ينقطع عن العطاء والنضال في ميادين العلم. رئيس سابق للاتحاد الدولي لصون الطبيعة وعضو شرف في نادي روما، وكان له دور فعال في معظم المؤتمرات والمعاهدات البيئية الدولية. وهو اليوم، في الخامسة والثمانين، أستاذ فخري في جامعة القاهرة ومقصد لطلاب العلم والباحثين.
الوطن العربي الممتد من المحيط الى الخليج حيز من الأرض الواسعة (13,8 مليون كيلومتر مربع)، ومن البحار الإقليمية (النطاقات الاقتصادية المخصصة التي حددها قانون الأمم المتحدة للبحار ـ 200 ميل بحري). حيز الأرض ثروة لأنه يتسع لاقامة مستقرات السكن ومراكز الصناعة ومحطات الطاقة وقرى السياحة والترويح، وفيه عناصر الثروات المعدنية، وفيه مواقع تصلح لمحطات الطاقة الجديدة والمتجددة (الرياح والشمس). أما حيز النطاق البحري ففيه مصادر معروفة للثروة (مصايد الأسماك) ومصادر تحتاج الى التقصي والاستكشاف. على سبيل المثال، تنتج مصر أغلب مواردها من الغاز الطبيعي من آبار على بعد أكثر من 100 كيلومتر من الساحل الشمالي، وفي قاع البحر الأحمر موارد معدنية تقدر ببلايين الدولارات وهي قسمة بين السودان والمملكة العربية السعودية. ان تنمية هذه الموارد البرية والبحرية تعتمد على مسوح علمية وبحوث، ليس بين أيدي الدول العربية غير القليل منها.
واحدة من المشاكل الرئيسية في الاقليم العربي هي قصور موارد المياه العذبة. الأرض الزراعية 3,4 في المئة، أراضي المراعي 18,8 في المئة، أراضي الغابات والأحراج 10 في المئة. جملة الأراضي المنتجة 4,1 مليون كيلومتر مربع، أي نحو 30 في المئة من مساحة الأرض اليابسة العربية، والباقي اي 70 في المئة اراض جافة وصحراوية. لذا ينبعي أن يتوجه الجهد العلمي العربي الى التعاضد والتكامل للتصدي لقضايا الموارد المائية على ثلاثة صعد رئيسية:
- كيف نزيد موارد المياه العذبة.
- كيف نرفع كفاءة استخدام المياه العذبة المتاحة.
- كيف نحافظ على نوعية المياه العذبة المتاحة.
لدى دول الاقليم العربي امكانات للبحوث والدراسات في الجامعات ومراكز البحوث قادرة على الكثير من العمل النافع، لو جمع بينها اطار العمل المشترك المتكامل والجاد والمتواصل لاستطاعت أن تعين هذه الدول على إيجاد الحلول لقضايا الموارد المائية، وعلى تجاوز هذه العتبة من عتبات التنمية والمعاصرة.
في ما يأتي عدة مجالات لتوجه الجهود العلمية:
1. موارد المياه في القطاعات النهرية التي تعتمد على الزراعة المروية من مياه الأنهار، في العراق وسورية ومصر والسودان، تأتي من منابع خارج الإقليم (تركيا في القطاع الشرقي، واثيوبيا والمنابع الاستوائية لحوض نهر النيل)، والدول العربية المعنية في أقاليم المصبات، اي في مواقع الحرج الذي تبرز أهميته في المواقف السياسية والقدرات على إدارة الحوار الإقليمي بين دول المنابع ودول المصبات، وهو حوار يفرق بين الصراخ "بالحقوق التاريخية المكتسبة" والحوار في إطار ميازين القوى الدولية.
2. موارد المياه المطرية في العالم العربي محدودة، تعتمد عليها الزراعات المطرية ومناطق المراعي (البادية). وتحتاج إدارة هذه المناطق الى مسوح ودراسات علمية تحدد قواعد التنمية المستديمة للموارد، أي صون النظم البيئية المنتجة من التدهور والتصحر. ولا يكون الهدف تعظيم الانتاج بل استدامته.
تتعرض أقاليم الزراعة المطرية والمراعي لنوبات الجفاف (سنوات المطر دون المتوسط). وادارة هذه "الكوارث الطبيعية" تحتاج الى إطار يجمع بين:
- نظام علمي للانذار المبكر (التنبؤ بالجفاف قبل حدوثه).
- نظام مجتمعي يستعد به المجتمع ليواجه الكارثة عند وقوعها.
- نظام لعون المجتمعات المتضررة وتمكينها من احتمال الضرر.
3. موارد المياه الجوفية في النطاق العربي ثرية، والتكاوين الجيولوجية تشمل طبقات حاملة للمياه في شبه الجزيرة العربية وامتداداتها في بلاد الشام، وفي شمال إفريقيا من مصر الى المغرب وموريتانيا. كميات المياه سخية، ولكنها غير متجددة، وغالباً ما تكون عند أعماق بعيدة. ان ادارة هذه الموارد ينبغي أن تعتمد على مسوح تقدر حجم الموارد والحد الآمن لما ينزح منها، وهذه من قضايا العلوم، وأن تكون تنمية هذه الموارد في إطار محددات المدى الزمني ومسؤولية الجيل الحالي تجاه حقوق أجيال الابناء والأحفاد. يراعى كذلك أن موارد المياه الجوفية في أحواض كبرى تتجاوز الحدود الوطنية، وأن تنمية هذه الموارد وترشيد استغلالها ينبغي أن يكونا في اطار التعاون الاقليمي وحسن الحوار. والحوار الاقليمي السليم يعتمد على البيانات والمعارف العلمية التي تتعاون الدول المشاركة في الحوض المعني على النهوض بها.
4. استخدام موارد المياه يعتمد على كمها ونوعها. ونقصد بالنوع درجة التلوث ذات الضرر. في كثير من المواقع تتعرض مياه الأنهار وفروعها الى التلوث المنقول من المنابع الى المصبات، والمحمول من المدن والقرى التي يمر بها النهر ويتلقى منها مخلفات الصناعة والسكن. في أغلب الدول، وفي ظروف شح موارد الري، يعتمد التوسع الزراعي على اعادة استخدام مياه الصرف (البزل) الزراعي، وهذه مسالة بارزة في خطط تنمية موارد المياه في مصر وفي دول الزراعة المروية. البحث العلمي هو السبيل الى ايجاد الوسائل التقنية لمعالجة مياه الصرف الزراعي لتكون صالحة لاعادة الاستخدام في الري، وهو السبيل الى اختيار المحاصيل واختيار وسائل الري المناسبة لذلك.
استخدام المياه الجوفية ينبغي ألا يعرض أحواضها للتلوث، فتلوث هذه المياه المختزنة في باطن الأرض تضرُّر ليس بين أيدينا وسائل علاجه ولا تقنيات إصحاحه. يعني هذا أن ضخ المياه الجوفية يلزم أن يتضمن أدوات الوقاية، وأن الحقول التي ترويها هذه المياه لا يسرب منها الى باطن الأرض ما يلوث مصادر الماء. كل هذا يحتاج الى ابتكارات علمية وتقنية لوقاية أحواض المياه الأرضية.
5. بين يدي الاقليم العربي دراسات مستفيضة قامت بها الجامعات ومراكز البحوث الوطنية، بالاضافة الى مراكز البحوث الاقليمية العربية والدولية (أكساد في دمشق وايكاردا في حلب) واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا) في بيروت. هذه الدراسات تشمل تقديرات علمية لكميات المياه المتاحة، وهي من الأسس الرشيدة لخطط التنمية الزراعية في الاقليم العربي. الظاهر، مع الأسف الشديد، أن الربط واهن أو معدوم بين البيانات والمعارف العلمية والقائمين على تخطيط التنمية الزراعية، وعلينا أن نبحث عن أدوات لتوثيق الروابط بين المراكز العلمية ومراكز اتخاذ القرار. هذه العلاقة تشوبها أوضاع مأسوية، تلخصها ثلاثة أمور: أولاً، المعارف والبيانات العلمية لا تجد الاعتبار الكامل في مشروعات التنمية، والفرق واضح بين "الاعتبار الكامل" الذي يأخذ بيانات الأوجه جميعاً، و "الاعتبارالجزئي" الذي يأخذ الوجه الواحد ويهمل الأوجه الأخرى. ثانياً، علاقة التوجس بين العلماء وأصحاب التقنية من جهة وأصحاب القرار من جهة أخرى، التي عبرت عنها مقولة "أهل الثقة مفضلون على أهل الخبرة"، والخلط المأسوي بين الرأي العلمي والموقف السياسي، وهو خلط دفع المجتمع العربي تكاليفه الباهظة بأن أقصى خيرة علمائه الذين هاجروا الى الخارج. ثالثاً، علاقة التوجس بين العشيرة العلمية والمجتمع العربي، مما زحزح المجتمع العربي الى الوراء بإشاعة الأفكار السلفية، وهي أفكار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، أثمرت ما نحن فيه من تبلبل مجتمعي وتخلخل في خطى التقدم، زاد عليها اتهام العالم الظالم بأن بلادنا حضانات الارهاب. لقد أصبح شغلنا الشاغل محاولات غير ذات جدوى للدفاع عن أنفسنا، وليس من سبيل للدافع إلا الأخذ بأهداب العلم والتقدم التكنولوجي.
6. الافليم العربي، شأنه في ذلك شأن الاقاليم الجافة في العالم، يحتاج الى الاستزادة من موارد المياه العذبة ليزيد من مساحات الانتاج الزراعي والرعي. ونشهد تجارب في سورية والمملكة العربية السعودية لاستمطار السحب، أي زيادة حصة المطر، وليس في هذا بأس. وهناك ثلاثة سبل لزيادة مصادر المياه العذبة الصالحة للزراعة في العالم:
- المياه الأرضية سخية، ولكن ثمة حاجة الى تطورات جوهرية في تقنيات الضخ تكون ذات كلفة أقل. التقنيات الحالية تعتمد على الطاقة الحرارية من البترول ومشتقاته، ونحن في حاجة الى اجتهادات تكسر الحاجز الاقتصادي في تقنية الضخ وفي مصادر طاقة الضخ. وتشير بعض تقنيات المضخات الشمسية ومضخات الرياح الى امكانات مزيد من التطوير.
- التقنيات الحالية لتحلية مياه البحر المالحة منتشرة في الاقليم العربي، وخاصة في شبه الجزيرة العربية والخليج، واقتصاديات الانتاج تجعلها صالحة ومقبولة للاستخدام المنزلي. نحتاج الى نقلة تقنية تيسر استخدام المياه المحلاة في الزراعة. لقد كان لمصر خلال 1964 ـ 1965 مشروع إنشاء مفاعل نووي في سيدي كرير، غرب الاسكندرية، من أهدافه الرئيسية تحلية مياه البحر بقصد استخدامها في الزراعة ذات الري الكفء، ومن المؤسف توقف المشروع. أما مشروع قناة الربط بين خليج العقبة والبحر الميت، فيستهدف انتاج طاقة تستخدم من تحلية المياه، وهو ما زال موضوع نقاش ومفاوضات.
- من مصادر المياه العذبة على سطح الأرض كتل الجليد في المناطق القطبية والجبال العالية. وقد جرت تجربة، بعون من الأمير محمد الفيصل، لسحب كتلة جبل جليد من المحيط المتجمد الجنوبي الى شبه الجزيرة العربية، ولقيت التجربة صعوبة عبور الكتلة لباب المندب. لكن الفكرة ما زالت تستحق النظر والبحث عن تقنيات جديدة. لقد كان بين يدي دول أميركا الشمالية مشروع ضخم هو "الاتحاد الاميركي للمياه والطاقة"، لنقل المياه من المناطق القطبية في الأسكا وشمال كندا الى مناطق الجفاف في جنوب غرب الولايات المتحدة وشمال المكسيك، ما زال المشروع في باب الأماني.
الخلاصة أن الحاجة واضحة في الاقليم العربي، وفي الاقاليم الجافة الأخرى في العالم، الى برامج طموحة للبحث العلمي والتطوير التقني لكسر حلقات الشح المائي. وهي برامج تحتاج الى التعاضد الاقليمي والدولي.