هناك شواهد كثيرة على تغير المناخ الذي يهدد بتأثيرات بيئية واقتصادية خطيرة قد تقوّض مسيرة التنمية في العالم، ومنها ذوبان الكتل الجليدية وازدياد الكوارث الطبيعية من أعاصير وفيضانات وموجات حر وجفاف.
وما زالت ثمة بدائل متاحة للحد من الاحتباس الحراري المسبب لتغير المناخ، تشملها آليات بروتوكول كيوتو وما قد يتقرر لفترة ما بعد سنة 2012 حين تنقضي مهلة التزام الدول المعنية بتخفيض انبعاثاتها. فكيف يبدو العالم بعد كيوتو؟ وماذا تعدّ الدول العربية للاستحقاق الآتي قريباً؟
كيوتو، العاصمة التاريخية للإمبراطورية اليابانيةلأكثر من ألف عام وحتى القرن التاسع عشر، شاء لها القدر أن تكتب صفحات جديدة في تاريخها، اذ شهدت ميلاد أول اتفاقية دولية للتصديلمشكلة من أخطر ما يواجه الجنس البشري في وقتنا الراهن. كان ذلك حينما اتفقت إرادة المجتمع الدولي على ضرورة وجود آلية دولية تلزم الدول الصناعية بالعمل على تخفيض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري المسببة للتغيرات المناخية بنسب محددة في توقيتات زمنية متفق عليها. وتم ذلك من خلال مفاوضات متعددة الأطراف شارك فيها ممثلون عن نحو 184 دولة واستغرقت نحو خمس سنوات، إلى أن انتهت عام 1997 في كيوتو بالاتفاق على بروتوكول حمل اسم المدينة التاريخية.
خلال رحلة المفاوضات الشاقة، حاولت الدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة جر أقدام الدول النامية لكي تساهم هي أيضاً في الالتزام بخفض الإنبعاثات. وكان المستهدف الدول النامية الصاعدة اقتصادياً مثل الصين والهند والبرازيل. وكانت حرب شرسة انتصرت فيها الدول النامية في النهاية، رافضة إدراجها في قائمة الدول التي فرض عليها خفض الإنبعاثات. وكانت حجتها المنطقية أن المتسبب الرئيسي في تغير المناخ الناشئ من ارتفاع درجة حرارة الأرض كان وما زال الدول الصناعية، منذ الثورة الصناعية وبدء استخدام الوقود الأحفوري كالفحم والبترول. كما أن المجتمع الدولي أقر في مؤتمر ريو دي جانيرو عام 1992 مبدأ هاماً هو "المسؤولية المشتركة لكن المتباينة" بتباين القدراتوالإمكانات لكل دولة، وتطبيقاً لهذا المبدأ فإن على الدول الصناعية الغنية أن تتحمل الجزء الأكبر من أي أعباء مطلوبة للتعامل مع هذه المشكلة الخطيرة التي تهدد مسار التنمية المستدامة في العالم بأسره.
من المعروف أن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون كانت وقعت على بروتوكول كيوتو أملاً بتصديق الكونغرس عليه. إلا أن تغير تلك الإدارة ووصول الرئيس الحالي جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، بدعم من صناعة البترول الأميركية، قلب الميازين رأساً على عقب. فلم تكن مفاجأة لأحد أن يعلن بوش انسحاب أميركا من بروتوكول كيوتو في آذار (مارس) 2001بعد اشهر قليلة من وصوله إلى البيت الأبيض. وخلال تلك الفترة كان العالم يستعد لجولة جديدة من المفاوضات في مدينة بون الألمانية في محاولة لإنقاذ البروتوكول من الضياع، خصوصاً بعد انسحاب الولايات المتحدة التي تنتج وحدها نحو ربع انبعاثات العالم من ثاني أوكسيد الكربون. وفي بون، وعلى رغم إجراءات الأمن الصارمة التي فرضتها الحكومة الألمانية حول مقر الاجتماع، إلا أنها سمحت للمئات من ممثلي الجمعيات غير الحكومية بالقيام بتظاهرات سلمية تدعو قادة العالم لإنقاذ كوكب الأرض وترفع شعاراً يقول "نعم لكيوتو ... لا لبوش".وعلى مدار ساعات النهار والليل دارت مفاوضات شاقة انتهت إلى اتفاق تاريخي كان بداية الطريق للتصديق على بروتوكول كيوتو عام 2005 من نحو 170 دولة، بينها 16 دولة عربية، من دون أن تنضم إليه الولايات المتحدة حتى الآن.
والواقع أن أميركا، حتى بعد انسحابها من بروتوكول كيوتو، لم تنقطع عن المشاركة في جهود المجتمع الدولي للحد من أخطار التغيرات المناخية. وعلى رغم أن آخر استطلاعات الرأي من الأميركيين تشير إلى أن نحو 75 في المئة يعتقدون أن تغير المناخ مشكلة خطيرة، إلا أن جماعات الضغط في شركات البترول والسيارات وغيرها ما زالت تؤثر سلباً على أعضاء الكونغرس في ما يخص وضع حدود ملزمة لتخفيض الانبعاثات على المستوى القومي الأميركي. وقد تكون هزيمة الحزب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة بارقة أمل لتغير هذه السياسة.
أما الصين، ثاني أكبر منتج للانبعاثات بعد الولايات المتحدة بسبب استخدامها المكثف للفحم الأكثر تلويثاً، فتقدر انبعاثاتها بنحو 3,65 بليون طن من ثاني أوكسيد الكربون. ولكن بالنظر إلى تعداد سكانها الأضخم في العالم،فإن نصيب الفرد من الإنبعاثات يقدر بنحو 2,7 مليون طن، ما يعادل نحو 12 في المئة من نصيب المواطن الأميركي. وتشير آخر دراسات الوكالة الدولية للطاقة إلى أن من المتوقع نتيجة معدلات النمو المتسارعة أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في كمية الانبعاثات بحلول سنة 2009. وعلى رغم أن الصين تقود حملة الدول النامية ضد أي محاولة لفرض التزامات ملزمة قانوناً في إطار كيوتو أو أي إطار آخر، إلا أنها وضعت هدفاً لإنتاج 16 في المئة من إجمالي الطاقة من مصادر متجددة بحلول سنة 2020، اضافة الى التخطيط لبناء مزيد من المفاعلات النووية.
موقع الدول النفطية
نظراً لتباين الظروف الاقتصادية والديموغرافية والجغرافية والمناخية في الدول العربية، فإن درجة تأثرها اقتصادياً وبيئياً من جراء مشكلة تغير المناخ سوف تختلف من دولة الى أخرى، حيث ستكون الدول الأقل نمواً أكثر عرضة لمخاطر تغير المناخ لضعف قدراتها الاقتصادية اللازمة لتبني إجراءات التكيف مع تلك المخاطر المحتملة.
فهناك 15 دولة عربية تصنف ضمن قائمة الأكثر فقراً في العالم من ناحية الموارد المائية، حيث يقل نصيب الفرد عن 1000 متر مكعب سنوياً. وتقع بعض الدول العربية ضمن المناطق الجافة التي يقل فيها سقوط الأمطار وترتفع درجات الحرارة والرطوبة طوال العام مع ضعف في موارد المياه الطبيعية، مما يجعلها تعتمد بشكل أساسي على تحلية مياه البحر وتستهلك كميات كبيرة من مصادر الوقود الأحفوري لهذا الغرض، مما يعني مزيداً من الانبعاثات.وهناك دول عربية تتعرض لموجات من الجفاف الحاد، مثل جيبوتي والصومال وموريتانيا والمغرب، في حين تتعرض دول أخرى لموجات من السيول والفيضانات مثل السعودية ومصر والجزائر والسودان. وهناك دولتان عربيتان تصنفان ضمن قائمة الدول الجُزُرية الصغيرة، هما البحرين وجزر القمر.
وتمثل عائدات البترول أهمية قصوى للدول المصدرة له في منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا، لذا فإن تبني سياسات للحد من استهلاك البترول والغاز في بقية دول العالم وخصوصاً الصناعية قد يؤثر سلباً على اقتصاد تلك الدول.وعلى رغم أن دول مجلس التعاون الخليجي قطعت شوطاً كبيراً منذ السبعينات في اتجاه تنويع اقتصاداتها، من حيث التوسع في مساهمة القطاعات الأخرى غير البترولية في الناتج المحلي الإجمالي كالسياحة والخدمات، والتوسع في الصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة كالبتروكيماويات والألومنيوم، بالإضافة إلى إجراء إصلاحات كبيرة في سياسات الاستثمار وسوق العمل والملكية العقارية وغيرها، إلا أن هذه الأنشطة ما زالت تعتمد بشكل كبير على استيراد التكنولوجيات من الخارج، كماتقوم بإدارتها عمالة وافدة.
وفي إطار التكيف مع الآثار المتوقعة لتغير المناخ، على الدول المصدرة للبترول أن تعيد النظر في سياساتها التنموية، من خلال إعادة هيكلة اقتصاداتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في المدى البعيد. كما أن على الدول الصناعية الكبرى أن تساعد الدول المصدرة للبترول والغاز على تنويع اقتصاداتها، ليس فقط من خلال تقديم المساعدة الفنية لتطوير القدرة المؤسسية، وإنما أيضاً للوصول الى الأسواق العالمية، وتسهيل نقل التقنيات النظيفة العالية الكفاءة، وزيادة حجم تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، والاستثمار المشترك في تطوير تقنيات الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الهيدروجين. فعلى سبيل المثال، لدى المملكة العربية السعودية أكبر قدر من الإشعاع الشمسي في العالم، إلا أن نشاط البحث والتطوير لاستغلال الطاقة الشمسية ما زال محدوداً للغاية مقارنة بما يجري في الدول الصناعية المتقدمة التي تملك موارد محدودة من الطاقة الشمسية مثل ألمانيا. ويجب أن نشير هنا إلى تلك المبادرة الرائدة التي أطلقت مؤخراً في أبوظبي لتطوير ونشر استخدامات الطاقة المتجددة والمعروفة باسم "مصدر".
ولقد لعب الاتحاد الأوروبي دوماً دوراً قيادياً في حث الدول الصناعية على ضرورة التصدي لهذا التحدي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. وتتعاون دول الاتحاد حالياً لكي توفي بالتزاماتها في اطار بروتوكول كيوتو، على رغم ما يمثله غياب الولايات المتحدة، المنافس التجاري الأهم والدولة الأكبر انتاجاً للانبعاثات في العالم، من مخاطر وهواجس تتعلق بالمنافسة الاقتصادية في أسواق العالم، التي تشهد تغيرات غير مسبوقة من حيث إزالة كل ما يعوق حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات. ومرة أخرى تؤكد دول الاتحاد الأوروبي هذا الدور القيادي، باصدار قادتها في اجتماعهم الأخير في شهر آذار (مارس) قراراً بخفض انبعاثات أوروبا بمقدار 20 في المئة بحلول سنة 2020، داعين بقية دول العالم الى اتخاذ خطوات مماثلة لما بعد سنة 2012، وهي نهاية فترة الالتزام الأولي لبروتوكول كيوتو، ضاربين المثل الذي يجب أن يحتذى من أجل إنقاذ كوكب الأرض وما عليه من كائنات في طليعتها بنو البشر.
البدائل متاحة
يبقى السؤال الذي يتردد دائماً هذه الأيام، خاصة بعد تزايد معدلات الظواهر المناخية الحادة مثل الأعاصير وموجات الحرارة المرتفعة والفيضانات المدمرة وغيرها:هل فعلاً تغير المناخ؟
هناك الكثير من الشواهد التي أكدتها القياسات العلمية الدقيقة والتي تدل على حدوث تغيرات في المناخ. إلا أن هناك أيضاً العديد من الظواهر التي لم يستطع العلماء حتى الآن تفسيرها أو إثبات العلاقة بينها وبين تغير المناخ. فعلى سبيل المثال، أثبتت الدراسات العلمية أنعقد التسعينات كان الأكثر ارتفاعاً في درجات الحرارة خلال القرن الماضي، وأن عام 1998 على وجه التحديد كان الأعلى حرارة منذ بدأت عملية قياس درجات الحرارة عام 1861، وأن موجة الحرارة العالية التي اجتاحت أوروبا في صيف 2003 وراح ضحيتها آلاف البشر كانت الأسوأ خلال 500 عام، كما كانت موجة الفيضانات المدمرة التي اجتاحت بريطانيا عام 2000 هي الأشد خلال 270 عاماً. بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بين 10 سنتيمترات و20 سنتيمتراً خلال المئة عام الأخيرة، وإلى زيادة موجات الجفاف الحادة في أفريقيا وآسيا خلال العقود الماضية. كما تعيش اوستراليا، التي انضمت الى الولايات المتحدة في رفض بروتوكول كيوتو، موجة من الجفاف وصفت بأنها الأسوأ منذ بدأت الهجرة الى هذه القارة.
والخلاصة أن قضية تغير المناخ انتقلت بسرعة من خانة النظريات العلمية إلى خانة الواقع الذي نلمس آثاره يومياً في حياتنا. و لم يعد السؤال المطروح حالياً هل تغير المناخ فعلاً، بل أصبح كيف تغير المناخ، وأين، وكيف سيكون شكل تلك التغيرات في المستقبل، وما حجم الآثار السلبية المتوقعة من هذه التغيرات على مسيرة التنمية في العالم؟
لحسن الحظ، هناك العديد من البدائل المتاحة التي تساهم في الحد من مشكلة الاحتباس الحراري اذا توافرت الإرادة السياسية لدى الحكومات، خاصة في الدول الصناعية التي تمتلك هذه البدائل. وهي تشمل تبني سياسات وتشريعات لتحسين كفاءة استخدام الطاقة في قطاعات الصناعة والنقل وتوليد الكهرباء واستهلاكها، علماً أن هذه السياسات سوف يكون لها، بجانب الأثر البيئي، فوائد اقتصادية في تحسين القدرة التنافسية لإنتاج السلع والخدمات، وخلق فرص جديدة للاستثمار والتشغيل. كما تشمل تلك البدائل مصادر الطاقة المتجددةالتي لا ينتج عنها أي انبعاثات، كالشمس والرياح وحرارة باطن الأرض، وبدائل الوقود الحيوي مثل إنتاج الكحول من قصب السكر والذرة واستخدامه كوقود على نطاق واسع كما في البرازيل والولايات المتحدة، علاوة على طاقة الهيدروجين التي يجري تطويرها حالياً لتحل مكان منتجات البترول في المستقبل المنظور.
ومن المعروف أن الغابات تلعب دوراً لا غنى عنه من خلال امتصاص ثاني أوكسيد الكربون، إلا أن الأنشطة البشرية ساهمت في تدميرها. وتقدر مساحة الغابات التي تمت إزالتها في العالم بنحو 130 مليون هكتار خلال العقد الماضي. ولتعويض تلك المساحة، من المطلوب زراعة نحو 140 بليون شجرة. وجدير بالذكر أن جائزة نوبل للسلام عام 2004 منحت للدكتورة وانغاري ماتاي لزعامتها حركة الحزام الأخضر في كينيا. وقد أعلنت ماتاي أثناء حضورها مؤتمر تغير المناخ الذي عقد العام الماضي في نيروبي عن مبادرة لزراعة بليون شجرة بمشاركة كل شعوب العالم وبدعم من برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
أما الطاقة النووية، التي مرت بأوقات عصيبة بعد حادث تشرنوبيل الشهير في الإتحاد السوفياتي السابق عام 1986، فقد فتحت أمامها آفاق لعالم جديد تتم صياغة ملامحه الآن، ويمكن أن تطلق عليه تسمية عالم ما بعد كيوتو، أو عالم بلا كربون. ذلك أن الطاقة النووية لا يصدر عنها أي انبعاثات كربونية، وبذلك قد تكون أحد البدائل التي يمكن من خلالها تنفيذ التزامات كيوتو وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، خاصة أن كلفة إنتاج الكهرباء منها أصبحت منافسة لكثير من البدائل الأخرى. وعلى رغم وجود أكثر من 400 محطة نووية في العالم تعمل في 31 دولة، منها دول نامية كالهند وباكستان والصين، فلا تزالهناك مخاوف من استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء، وهي مخاوف متعلقة بمنع انتشار الأسلحة النووية.
وتتزايد المؤشرات يوماً بعد يوم محذرة من حدوث تغيرات في مناخ الكرة الأرضية تهدد بتأثيرات بيئية واقتصادية خطيرة قد تقوّض مسيرة التنمية في العالم.وستكون الدول النامية والفقيرة الأكثر تأثراً بتلك التهديدات نظراً لعدم توافر الإمكانات اللازمة لمواجهتها، مما يهددها بمزيد من المشكلات الاقتصادية والبيئية وبتفاقم مشكلات الفقر والمجاعة.ويتفق العلماء على أن رد فعل المجتمع الدولي لمواجهة تلك المشكلة لا يتناسب مع خطورتها، وأن بروتوكول كيوتو خطوة ايجابية لكنها ليست كافية، خاصة في ظل غياب الولايات المتحدة، الدولة الأكبر إنتاجاً للانبعاثات.
فهل يستيقظ الضمير العالمي قبل فوات الأوان؟