اعتاد يونس عزيز منذ أشهر أن لا يعود الى بيته مساء الا وهو يحمل قنينة من المياه المعبأة التي ندعوها "المياه المعدنية". وهو يعمل سائقاً في أمانة بغداد، ويسكن وأهل بيته في أحد أزقة محلة العبيدي في أطراف المدينة، حيث كانوا يوماً ضحية المياه الملوثة.
يقول يونس ان أسرته كانت في الماضي تسحب مياه الشرب الشحيحة بواسطة مضخة، من غير أن تدري أنها كانت ممزوجة بشيء من مياه الصرف الصحي بسبب التكسر في أنابيب شبكتي الصرف والشرب. هذه التكسرات حصلت عندما توسعت عائلة الجار أبو سرمد، فبنى مسكناً إضافياً في حديقة داره، وقام بتثقيب أنبوب المياه في الشارع وثبت عليه وصلة لتزويد المسكن الجديد بالمياه. فأحدث الثقب تشققاً في الأنبوب الرئيسي، مما أوجد حالة امتزاج مع تربة المدينة المشبعة بمياه المجاري.
عندما أصاب المرض ولدي يونس، كرار (15 سنة) وسجاد (سنتان)، توجه بهما الى المستشفى حيث اتضح أنهما مصابان بالتهاب الكبد الفيروسي نتيجة الماء الملوث. بعد هذا الحادث عدلت العائلة البسيطة عن استخدام المضخة مهما شح الماء في الأنابيب، وصار يونس يشتري قناني المياه المعبأة لطفله حيدر الذي ولد قبل أشهر.
اختلاط مياه الشرب والصرف
نظراً الى ازدياد مصادر تلوث المياه في العراق، يبدو متوقعاً ما قاله طبيب الأمراض الباطنية الدكتور خزعل أحمد، الذي أشار الى أن جرعة ماء نقية قد تصبح ذات يوم حلماً في بعض المناطق. فقد توقف 70 في المئة من محطات تنقية مياه الشرب خلال الحصار، وأصبح متعذراً في تلك الفترة وما بعدها تأمين الموارد والأجهزة والأنابيب والمواد اللازمة لتنفيذ مشاريع معالجة المياه. ويؤيد كلامه التقرير الذي أصدرته الدائرة الفنية في وزارة البيئة مؤخراً عن عمليات اللجنة المشتركة للتدقيق في نوعية مياه الشرب والمؤلفة من خبراء تابعين لمديريات البيئة والماء والصحة. وقد قامت اللجنة خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي بالتدقيق في نوعية مياه الشرب في المحافظات كافة، باستثناء الانبار لوضعها الأمني الصعب. وسجلت محافظات كربلاء وبابل وبغداد والبصرة والمثنى أعلى نسب تلوث في الفحص الجرثومي، في حين سجلت محافظات صلاح الدين وبابل والبصرة وذي قار والمثنى تلوثاً كيميائياً في فحص الكلور.
التقرير يعطي أسباباً عدة لهذه النتائج، في مقدمتها قدم الشبكات وتكسرها، وتعطل مضخات حقن الكلور أو عدم اضافة كمية كافية، وانقطاع الماء الخام عن بعض المجمعات المائية، وانقطاع التيار الكهربائي. غير أن تقريراً آخر أصدرته وزارة الصحة أشار الى وجود حالات فادحة من التلوث المائي في عموم محافظات العراق، مضيفاً أسباباً أخرى الى تقرير وزارة البيئة، منها استخدام نظام "المراشنة" أو التناوب في كثير من المحافظات، وذلك بتوفير المياه لمنطقة في يوم ما والتحول الى منطقة أخرى في اليوم التالي.
أما الاختصاصية البيولوجية هند عبدالغني، التي تحدد نسبة التلوث وعدم مطابقة المياه التي تصل الى سكان بغداد للمواصفات القياسية العراقية، فانها ترجع نسب التلوث العالية الى قلة الكمية المجهزة للمواطنين. فمحطات المياه الموجودة في بغداد قديمة، ولا تتناسب طاقتها الإنتاجية مع الزيادة الحاصلة في السكان، مما يؤدي الى شحة في معظم المناطق وخصوصاً في فصل الصيف. فتضطر المحطات الى الضخ بصورة سريعة، وهذا يؤثر في نوعية المياه اذ لا تأخذ وقتها الكافي في المراحل المختلفة للتعقيم. هذا فضلاً عن التكسرات في أنابيب شبكة الشرب وشبكة الصرف الصحي التي تؤدي الى امتزاج مياههما، والتسرب أيضاً الى المياه الجوفية.
في محافظة بغداد أيضاً، سجلت الملاكات الفنية المتخصصة عدم تطابق نوعية الكلور الحر مع المواصفات داخل العاصمة وأطرافها على امتداد العام الماضي. وتعتقد هند عبدالغني أن ذلك الفشل يرجع الى طول شبكة التوزيع، إذ تكون نسب الكلور غالباً معدومة في نهاية الشبكة، فضلاً عن أن بعض المحطات لا تقوم باضافة الكمية المقررة لضمان وصول الكلور الى نهاية الشبكة.
ويرى المهندس البيئي علاء مهدي، الى جانب ما ذكر، وجود مشاكل تصميمية لشبكة توزيع مياه الشرب في بعض المناطق، منها مدينة الصدر التي تقع في مستوى أدنى من شبكة الصرف الصحي، ما يسهل انتقال مياه الصرف الملوثة الى شبكة مياه الشرب. ثم ان شبكة توزيع مياه الشرب لا تصل الى عدد من المحلات والمناطق، لا سيما في أطراف محافظة بغداد.
سطو على الشبكات
ان "نفقاً" كهذا تمر به شبكة مياه الشرب وينتهي بقدح ماء غير مضمون النقاوة، يجرنا للسؤال عن المشاكل التي تعاني منها المحطات والمجمعات المائية في العراق. وقد حدثنا المهندس البيئي سلام سلمان عن هذه المشاكل قائلاً: "ان عدم اجراء الصيانة الدورية للمحطات والمجمعات المائية يجعل الكثير منها تعاني من عطل مضخات الكلور والشبّ. كما أن عدم تجهيز المجمعات المائية بالاحتياج الفعلي من المياه الخام لضمان تشغيلها بطاقاتها الكاملة يعطل عملها في تزويد المواطنين بصورة مستمرة".
غالبية هذه المحطات والمجمعات لا تملك مولدات كهربائية، او قد تكون هذه المولدات عاطلة لا تشتغل بكامل طاقاتها الفعلية لدى انقطاع التيار. ومن المشاكل الأخرى عدم وجود مشغلين ومدربين كفوئين يعملون بدوام كامل. يضاف الى ذلك تجاوزات المزارعين الذين يسحبون بطريقة غير شرعية من الأنابيب الناقلة للمياه الخام الى المجمعات المائية، وعدم تناسب كمية المياه المنتجة مع الاحتياج الفعلي المتنامي مع الزيادة السكانية، وعدم كفاية زمن الاختلاط اللازم للكلور مع الماء نظراً لالحاح الطلب على مياه الشرب.
لقد استنفرت وزارة البيئة امكاناتها، متعاونة مع الدوائر المعنية ومنظمات المجتمع المدني، للتوعية ومراقبة نوعية المياه وسحب نماذج لأغراض الفحص الجرثومي واجراء التحاليل الكيميائية والبيولوجية. وتعمل دوائر البلدية على صيانة الشبكات واصلاح النضوحات والكسور. وتتولى دوائر الرعاية الصحية الأولية مهمة البحث عن الحالات المرضية وفحص نسب الكلور في الماء للابلاغ عنها، وتوزيع حبوب "الهلزون" لتعقيم المياه وحبوب "السبرودار" لعلاج حالات التيفوئيد.
مسؤولو وحدات المختبر في عدد من هذه الدوائر يشيرون الى أن أبرز الاصابات الناجمة عن المياه الملوثة خلال النصف الأخير من عام 2006 هي المرتبطة بأمراض التيفوئيد والتهاب الكبد الفيروسي والاسهال والهيضة والبلهارسيا. وقد حصلت وفيات بسبب الاصابة ببعض الانماط الخطرة لمرض الكبد الفيروسي.
ولتخفيف حالات التلوث، يوصي الفيزيائي الدكتور ثائر شفيق بضرورة اجراء الصيانة الدورية لمحطات المياه وشبكات التوزيع وشبكات المجاري، وتجهيز المجمعات المائية باحتياجاتها، ووضع رقابة مشددة على التعديات التي تتعرض لها الأنابيب الناقلة للمياه، واستخدام نوعيات جيدة من مواد التعقيم.
نعود الى يونس، السائق في أمانة بغداد الذي واظب على شراء قناني المياه معتقداً أنها معقمة وستجنب وليده ما حصل لشقيقيه. فنجده قد عاد الى البيت يوماً ليجد ولده الرضيع نقل الى المستشفى. فقد بات شائعاً ان القناني المعبأة بمياه الشرب، الصغيرة منها والكبيرة، لم تسلم هي أيضاً من الطفيليات التي تسبب إسهالاً وآلاماً حادة في المعدة وأمراضاً لا تحمد عقباها.