سهول وجبال في قمة العالم لا تعرف النور في الشتاء ولا الدفء طوال السنة ومع ذلك فهي لا تخلو من روعة الحياة
جزيرة إلزمير ليست ملاذاً للذين يشكون من الوحدة. تقع في أقصى شمال الأراضي القطبية الكندية، بعيدة 4000 كيلومتر عن مدن كندا الرئيسية. وعلى رغم أنها تعادل بريطانيا العظمى مساحة، فإن هذه الأرض الجميلة شبه خالية من الناس، لا قيم فيها الا بضع مئات من السكان الذين تجمعوا في مستوطنات صغيرة وفي محطات أبحاث على الشاطئ. البرد القارس وندرة النباتات وظلمة الشتاء القطبي الطويل عوامل تضافرت لتجعل هذه الجزيرة مكاناً منفّراً ومن أكبر القفار القطبية.
تقع إلزمير في "أعلى" العالم تقريباً. وأقصى نقطة في شمالها كيب كولومبيا التي تبعد أقل من 800 كيلومتر عن القطب الشمالي، ولا يضاهيها قرباً منه إلا الطرف الاقصى لجزيرة غرينلاند. على هذا البعد من خط الاستواء، يكون لميلان الأرض في دورتها حول الشمس تأثير موسمي أقصى على المناخ. ففي معظم فصل الشتاء لا ترتفع الشمس فوق الأفق أبداً، وتغرق الأرض في ظلمة متواصلة تدوم خمسة أشهر في شمال الجزيرة. وطوال فترة مماثلة في الصيف تبقى الشمس في السماء، وتنحدر يومياً نحو الأفق لكنها لا تغيب تحته.
الأشهر الطويلة الخالية من أشعة الشمس تجعل شتاء إلزمير بارداً بصورة استثنائية، إذ يبلغ معدل الحرارة في منتصف الشتاء أقل من 30 درجة مئوية تحت الصفر. وحتى عند انتصاف النهار في فصل الصيف، تكون الشمس منخفضة في السماء الى حدّ أنها بالكاد تطرد البرد القارس من الهواء. ويكون معدل الحرارة في الصيف فوق درجة التجمد بقليل.
صحراء جليدية
الجليد المتماسك على مدار السنة، يملأ المحيط المتجمد في الشمال والمضائق والقنوات في الغرب. فقط في الجنوب وفي المضيق الضيق الذي يفصل إلزمير عن غرينلاند شرقاً تنفتح المياه الساحلية أمام حركة الملاحة صيفاً. وداخل الجزيرة، تغطي الكتل الجليدية الدائمة مساحات ضخمة من المرتفعات. وتغطي الثلوج الأراضي الخالية من الجليد، أي سهول التندرة القطبية، طوال تسعة أشهر من السنة. ومع ذلك، تصنف بيئة إلزمير بأنها صحراوية. فعلى معظم الجزيرة، لا يسقط إلا نحو 65 مليمتراً من الثلج سنوياً، مما يكفي لتغطية الأرض، لكنه أقل من التساقطات التي تتلقاها الصحراء الافريقية الكبرى سنوياً كمطر.
العيش صعب على جزيرة إلزمير. وقد عثر علماء الآثار على بقايا مستوطنات قديمة لشعب الانويت (الاسكيمو)، وحتى على أدلة تشير الى أن نشاطات تجارية كانت تربطهم بالمغامرين الاسكندينافيين من الفايكينغ في القرن الثاني عشر. وربما كانت الجزيرة تشكل طريقاً للهجرة نحو الجنوب الغربي وغرينلاند. لكن الى حين تأسيس مستوطنة الانويت الحديثة الصغيرة "غرايس فيورد" على الساحل الجنوبي عام 1953، لم يستقر أحد على الجزيرة منذ 250 عاماً. وكان صيادون من الانويت وقلة من العلماء والمستكشفين زائريها الوحيدين.
مصير إحدى البعثات الاستكشافية يلقي الضوء على قساوة الطبيعة في إلزمير. ففي عام 1883، بعد انقطاع إمدادات السفن طوال سنتين عن أفراد بعثة أميركية كانوا يستكشفون شمال الجزيرة، تراجعوا جنوباً في حال من اليأس، وسط رياح هوجاء وامتدادات لامتناهية من الجليد وعواصف ثلجية عاتية. وعندما بلغوا مخازن الطوارئ التي كانوا يبحثون عنها، لم يجدوا إلا مؤناً ضئيلة في مواجهة شتاء رهيب. وحين تم إنقاذهم في الصيف التالي لم يكن باقياً منهم على قيد الحياة إلا سبعة من أصل 25 مستكشفاً.
حياة الصامدين
على رغم قساوة المناخ في الشتاء المظلم، تلبس الجزيرة في ضوء الصيف وجهاً ساحراً. فما إن يقوى الضوء وتذوب الثلوج حتى تتكشف الطبيعة عن جبال شاهقة يصل ارتفاعها الى 2600 متر، وعن كتل وأنهار جليدية مترامية الأطراف، وسهول حصوية وعرة وأودية خضراء. وتُسنّن الشاطئ أزقة بحرية (fiords) رائعة، وتطفو قبالته جبال جليدية تبعث على الرهبة.
أراضي الجزيرة سهول تندرة شاسعة مكشوفة. لا وجود لأشجار هناك، وحدها شجيرات الصفصفاف القزمة تقوى على البقاء وسط قساوة الشتاء. لكن أنواعاً مختلفة من الأشنات والطحالب والأعشاب الصغيرة، مثل خشخاش القطب الشمالي، تلطف عزلة السهول وتشكل ملاذاً وقوتاً للحياة البرية. وفي الوديان المحمية من عوامل الطقس، تغطي النباتات الأرض بكثافة، مما يخلق جيوباً من الوفرة النسبية.
وفي الأجزاء الأغنى من التندرة، تظهر الحياة الحيوانية صيفاً، وإن لم تكن بالتنوع الغني. غالبيتها بذلت قصارى جهدها لتجنب الشتاء القطبي. البعض يخرج من مخابئه، والبعض الآخر يأتي من ملاذات شتوية أكثر دفئاً. الحشرات الشديدة القدرة على الاحتمال، مثل الفراش، تخرج من سباتها في التراب والطحالب. وتأتي أعداد كبيرة من الطيور، مثل الزقزاق والبط والاوز والخرشنة، من أراض بعيدة عن المنطقة القطبية لتعشش وتقتات في التندرة وعلى الشاطئ وضفاف الأنهار والبحيرات. وبعد وقت قصير من انتهاء عملية التزاوج تتراجع جنوباً من جديد.
وحدها الحيوانات الثديية القليلة المقيمة على الجزيرة تبقى نشطة مع حلول الشتاء. فالقوارض والأرانب والثعالب القطبية لا تسبت، لأنها إن فعلت قد تتجمد حتى الموت. ومع بداية هبوب العواصف الثلجية العنيفة، تنبش أيائل الرنة الثلج بحوافرها لتعثر على الكلأ. وعندما يهبط ظلام الشتاء، تصبح الحياة شاقة حقاً.
ثيران المسك، التي تحميها طبقة من الوبر الخشن، تنتقل الى السهول المرتفعة حيث تذرو الرياح القوية بعض الغطاء الثلجي فيتسنى لها العثور على نباتات. وتجوب الذئاب القطبية أصقاع الظلمة باحثة عن جيف حيوانات استسلمت لقساوة الشتاء في هذه الجزيرة القطبية المقفرة.