رحلة استكشاف ممتعة على درب جبلي يمتد من شمال لبنان الى جنوبه مجتازاً أكثر من ٧٠ قرية وواضعاً لبنان على الخريطة العالمية للسياحة البيئية
ريما غبريال، شادي غجر، فيصل أبو عزالدين
عشية الانطلاق، تجمّع المشاة في بلدة القبيات الشمالية ليبدأوا مغامرتهم صباح اليوم التالي باتجاه قرية تاشع التي تبعد 20 كيلومتراً، مزودين بالمعدات الضرورية والوجبات الخفيفة والماء، ومعتمدين على جدول زمني يحدد أوقات ومواقع الانطلاق والاستراحة والوصول.
في الصباح الباكر، بدأوا ''المشوار الطويل'' الذي سيوصلهم في آخر محطاته الى مرجعيون جنوباً، وينقلهم من قرية الى قرية عبر جبال خضراء وسهول وغابات عابقة بعطر الزهور. يسيرون في أحضان الطبيعة من دون أن يعكّر صفو مشيتهم سوى التعب الذي يدّب في أجسادهم بين الحين والآخر. لكنهم لا يستسلمون، فقائد الفريق لهم بالمرصاد، يشجّعهم ويحدد لهم المسافة المتبقية قبل حلول وقت الاستراحة وتناول الغداء الخفيف على صخرة هنا أو في ظل شجرة هناك.
بين الحين والآخر يستوقفهم منظر طبيعي خلاب يدفعهم الى التهافت على كاميراتهم محاولين تخليد المشهد في آلاتهم وذاكراتهم. لمَ لا، فدرب الجبل اللبناني لا يبخل على روّاده بالمناظر الطبيعية الآسرة، من الأنهار والسواقي والينابيع المتدفقة الى النباتات والطيور الموسمية والحيوانات البرية، مروراً بمعالم أثرية كالمعابد والقلاع. يقفون، يتأملون، يأخذون الصور، عائدين بالذاكرة الى ما ردّده أجدادهم عن أن لبنان هو جنة الله على الأرض. وبالفعل، تكاد لا تخلو قرية من موقع مميز، اذا وقفت عنده وجدت نفسك على كتف واد سحيق أو رأيت منه البحر المتوسط ينبسط تحت قدميك ملامساً الأفق في البعيد.
عمل وحكايات وكرم ضيافة
ها قد حانت الساعة التي ينتظرها المشاة منذ الصباح، ساعة الغداء والاستراحة قبل إكمال الطريق الى المحطة النهائية لهذا اليوم. يومئ لهم قائد الفريق من مطلع المسار المتعرج، مشيراً بيده الى صخرة تطل على واد عميق تقبع عند أقدامه محطتهم التالية. هنا، يتجمّعون لتناول السندويشات الخفيفة وبعض الفاكهة المجففة التي تمنحهم الحيوية الضرورية لاستكمال ما تبقى من رحلتهم. يأكلون، يشربون، يتبادلون أطراف الحديث، ويناقشون انطباعاتهم عن صعوبة هذا القسم من الدرب أو سهولته، ودقة الخرائط التي يحملونها، وصحة المعلومات الواردة في مسودة كتيب درب الجبل اللبناني. فهم لم ينطلقوا في هذه الرحلة بهدف الترفيه، بل للعمل. مهمتهم واضحة، وكل واحد منهم يتولى المسؤولية التي ألقيت على عاتقه برحابة صدر، كلّ حسب خبرته ومجال اختصاصه. فمنهم من يهتم بالخرائط، ومنهم من يحصي أنواع النباتات والأشجار، بينما يقترح البعض التعديلات على مسار الدرب بهدف تحسينه، ويحدد البعض الآخر الأماكن التي تحتاج الى تنظيف وإشارات لإرشاد المشاة.
وبينما هم جالسون، يطل عليهم أبو حاتم. رجل طيب في العقد السابع من عمره، رافقهم لما تبقى من مسيرتهم ذلك اليوم بلا كلل ومن دون التجهيزات التي يقتنيها المشاة عادةً من أجل راحتهم وسلامتهم. وكيف يتعب أبو حاتم، هو الذي اعتاد طوال حياته التجوال في الجبال والوديان لينقل عبرها المواشي بين قرية وأخرى.
على وقع صوت أبي حاتم وقصصه الطريفة عن أيام الصبا، واصل المشاة مسيرتهم في جو من الفكاهة والالفة والمرح جعلهم ينسون تعبهم. وها هم بعد بضع ساعات، وبارشادات صديقهم الراعي ونصائحه، يصلون الى القرية التي سيبيتون فيها قبل الانطلاق صباح اليوم التالي الى وجهتهم الجديدة. يستقبلهم الأطفال بحماسة، يمشون خلفهم ويصفقون لهم، يحيطون بهم ويتأملونهم حتى من خلف نوافذ بيوتهم. وما ان يصلوا الى بيت الضيافة الذي سينزلون فيه حتى تبدأ أسئلة أصحاب البيت عن رحلة اليوم الطويل. وبكرم الضيافة الذي طالما اشتهر به اللبنانيون، ولا سيما سكان القرى، غصّت طاولة العشاء بأنواع مختلفة من الأطباق الجبلية اللذيدة والحلوى المنزلية، انهال عليها المشاة بكل شهية بعد يوم طويل من المشي الماراثوني.
لكن الأمسية لم تنتهِ هنا، إذ بدأت الأحاديث مع أهل البيت عن تاريخ القرية والقصص المنسية التي إن سألتَ عنها جدران المنزل لَنطقت بها. شيئاً فشيئاً بدأ النعاس يحل على المشاة، وراحوا ينسحبون الواحد تلو الآخر الى غرف النوم التي افترشوا أسرّتها وأرضها، بعد أن راجع قائد الفريق بسرعة ما أنجزوه ذلك اليوم، مذكّراً إياهم بما ينتظرهم مع بزوغ فجر يوم جديد.
كالبدو الرحّل
بالوصول الى قرية تاشع اجتاز الفريق محطة من المحطات الأربع والعشرين في رحلة الـ400 كيلومتر سيراً على درب الجبل اللبناني. إنها مغامرة مشوّقة شاركت فيها مجموعة من المشاة يمثلون جمعيات وشركات لبنانية منظّمة للرحلات السياحية البيئية، بالإضافة إلى أفراد من فريق عمل ''درب الجبل اللبناني''. وكان لا بد من القيام بهذه الرحلة استكمالاً لأعمال رسم مسار الدرب وإعداد الخرائط وتحضير كتيّب حول الدرب، وغيرها من النشاطات التي بدأت منذ العام الماضي وما زالت مستمرة بهدف وضع هذا الدرب على الخريطة العالمية للسياحة البيئية.
وكالبدو الرُحّل، واصل المشاة طريقهم متنقلين من قرية الى قرية بملء الحماسة والمثابرة. وكما في اليوم الأول، حلوا ضيوفاً على البلدات والبيوت مساهمين بذلك في إنعاش الاقتصاد الريفي، ولاقوا أصدقـاء جدداً على غرار أبي حاتم، وكان في انتظارهم المزيد من المغامرات. فهكذا هو درب الجبل اللبناني، درب المشاوير والحكايات.
كادر
تعرّف الى لبنان من ذرى جباله
درب الجبل اللبناني مسار للمشي والاكتشاف والمغامرة، يمتد على مسافة 400 كيلومتر رابطاً القبيات شمالاً بمرجعيون جنوباً، عبر معابر قدم وطرق زراعية تجتاز ما يفوق 70 قرية وبلدة جبلية. ويمكن لمحبي المشي في الطبيعة السير على أي قسم منه ليوم أو يومين أو أكثر، أو اجتيازه كاملاً من الشمال الى الجنوب.
المشروع مموَّل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومن تنفيذ شركة ''إيكوديت''، وينطوي على أوجه بيئية واقتصادية واجتماعية من شأنها تسليط الضوء على لبنان كوجهة جديدة للسياحة البديلة. وهو يساهم في حماية التراث الطبيعي في الريف اللبناني، واكتشاف قرى تتميز بجمالها الطبيعي وتقاليدها الفريدة، وتعزيز إدارة المحميات الطبيعية (يمر في ثلاث محميات: أرز الشوف وأرز إهدن وأرز تنورين).
ومن شأن الدرب دفع العجلة الاقتصادية في القرى وخلق فرص عمل لسكانها. فالسياح المشاة سيحتاجون الى خدمات مرشد محلي ويستريحون في بيوت ضيافة يملكها سكان القرية ويشترون المنتجات القروية، الأمر الذي يعزز الصناعات الحرفية الصغيرة. ويمر الدرب في بعض القرى التي أعطت شعراء وكتّاباً مبدعين، وينشر الوعي حول أهمية المباني التاريخية وضرورة الحفاظ عليها، إضافةً الى إشراك المجتمع المدني.