Thursday 21 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
إليزابيت فولرتون مقر المنظمات العربية في الكويت  
تموز-آب (يوليو-اوغسطس) 2007 / عدد 112-113
 وسط غابة ناطحات السحاب الزجاجية التي غزت دول الخليج، يقوم مبنى فريد في مدينة الكويت، قد يكون النموذج الأفضل لما يجب أن تكون عليه العمارة البيئية الحديثة في العالم العربي. المقر الدائم للمنظمات العربية مصمم على أسس البيت العربي التقليدي، حول فناء داخلي رحب تطل عليه جميع المكاتب، وكأنه نقل الطبيعة الى الداخل. شبابيكه الزجاجية محفورة في الجدران بزوايا تمنع حرارة الشمس ولا تحجب الضوء. جدرانه، المغطاة بقطع غرانيت من لون الطين، تتناغم مع ألوان الصحراء. والفناء الداخلي، الذي تظلله الأشجار، يمتد على الطوابق جميعاً، وهو مفتوح على الضوء بجدار زجاجي ضخم يغطي الجهة الشمالية، المحجوبة عن أشعة الشمس المباشرة. تشعر وأنت داخل هذا المبنى كأنك تسبح في الضوء. لا يزعجك هبوب رياح المكيفات، كما لا تزعجك حرارة. فأنظمة العزل والضوء خلقت داخل هذا المبنى بيئة معتدلة مريحة، يندر أن تقع على مثلها في الأقفاص الزجاجية الشائعة اليوم. يستهلك هذا المبنى الصديق للبيئة أقل من نصف الطاقة التي يحتاجها بناء زجاجي بالحجم نفسه. وعلى الرغم من كل صفاته البيئية، يحمل هذا المبنى مقومات العمارة الحديثة، بكل تكنولوجياتها المتطورة.
وراء الفلسفة المعمارية لمبنى المقر الدائم للمنظمات العربية في الكويت يقف عبداللطيف الحمد، مدير عام الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي. فهو أشرف على انشائه، من الفكرة إلى أدق التفاصيل. هذا المبنى البيئي يجب أن يدرَّس لطلاب الهندسة والعمارة في كل جامعة عربية.
ن. ص.
مدينة الكويت الحديثة، كما ترتسم ملامحها المعمارية على الأفق، تبدو كأنها الشقيقة الصغرى لحي منهاتن في نيويورك. فقد اختفت المنازل المنخفضة المبنية بالطين حول فناء محمي من حرارة الشمس، التي كانت تشكل الطابع المميز للمباني في الخليج. وأصبحت المدينة اليوم خليطاً من المباني الشاهقة التي تتنافس للوصول الى السحاب. وحلت الطرق السريعة المتعددة المسارات محل الطرق الضيقة المتعرجة، وغيرت نمط الحياة في الكويت الى غير رجعة. وفي حين يأخذ البعض على هذا التغيير أنه يطمس الطابع التقليدي للمدينة تدريجياً، يرى البعض الآخر أن المطلوب هو عمارة عربية حديثة تدمج العصري بالقديم، من دون المساس بالطابع المميز للمنطقة.
من أبرز الأمثلة على العمارة المبدعة في الكويت مبنى المقر الدائم للمنظمات العربية، الذي اكتمل بناؤه عام 1994، ويضم أربع منظمات هي: الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، الشركة العربية البحرية لنقل البترول.
منذ نشأت فكرة المبنى، كان يراد له أن يكون معلماً قومياً، يرمز الى الحضارة العربية المتنوعة التي تمثلها البلدان الأعضاء. فكان لا بد للتصميم أن يكون بمستوى الفخامة التي تتطلبها أهمية هذا الرمز. ولا يظهر من الخارج إلا القليل من روعة المبنى، الذي يبدو للزوار من بعد كيلومترات كتلة مكعبة ضخمة من الغرانيت الرمادي، تغطي 54 ألف متر مربع، منقطة بفتحات مائلة ومخروطة بعمق في كل جانب. هذه الواجهة البالغة البساطة والتي تضفي على المبنى طابعاً صارماً ومتقشفاً لم تأتِ عفوية، بل كانت مقصودة، تتماشى مع روح الطابع المعماري العربي الذي يتجه بالبناء نحو الداخل.
يقوم التصميم الداخلي للبناء على استعمال الفنون والحرف من أنحاء المنطقة العربية بشكل متكامل ومتجانس. فبالإضافة الى القيمة الفنية والذوق الرفيع الذي لا يمكن إنكاره، تقدم هذه الفنون صورة بصرية لتكامل الحضارة العربية، الذي لم يأتِ نتيجة مزج تراث متعدد الجنسيات والثقافات، بل هناك خيط حيوي هام يوحد جميع هذه الأعمال الفنية الآتية من مناطق عربية مختلفة، من الخليج إلى الشام فالمغرب. هذا الخيط هو الإسلام.
فسيفساء كل العرب
لا يبدأ المرءفي تخيل ما سيراه داخل المبنى الا عند الاقتراب من المدخل، ببوابته المهيبة المبنية بالحجر التونسي العاجي اللون. مصراعا البوابة من مصر، من خشب الجوز والماهوغاني، ويبلغ وزن كل منهما طناً، وهما مطعّمتان بنقوش من النحاس والفضة على شكل نجوم. وفي بعض أوقات النهار، حين تسطع الشمس على البوابة وتغمرها بأشعتها، تبعث بآلاف الانعكاسات البراقة في كل اتجاه.
عندما تدخل المبنى يغمرك شعور بالانبهار. فحجمه وأبعاده المترامية والمرتفعة تجعلك تحبس أنفاسك وتذكرك بعظمة أفخم صروح العبادة، اذ يخلف في نفسك أثراً قوياً دون أن يكبت مشاعرك. يمكنك أن تجلس في هدوء ساعات طويلة في "قصر الحمراء" الحديث هذا، يداعب أذنيك خرير مياه النوافير، وتستمتع بالجمال الخلاب المحيط بك من كل جهة. ويجذب انتباهك فوراً، الى اليسار، شلال هائل من المياه المتدفقة فوق لوحة من الفسيفساء المغربية الزاهية الألوان والمصنوعة باليد. وحين يصل الشلال الى القاع، يرسل المياه برفق عبر لوح من البلاط المسطح الذي يضاهي جاره المتصالب عليه، قبل أن تختفي من خلال ثقوب في البلاط صغيرة جداً وغير مرئية. ويغطي الجانب الأيمن من المدخل، في مقابل شلال المياه، لوح مشابه من الزخرفة بالفسيفساء المغربية التي تعكس الألوان ذاتها الموجودة في لوح الفسيفساء المقابل.
وفقاً لتقاليد العمارة الاسلامية، معظم الزخرفة الموجودة في المبنى ذات طابع هندسي، بغض النظر عن مصدرها. ومع تنوع هذه الزخارف، هناك ترتيب ايقاعي للرسوم يجعل أجزاءها تتآلف بعضها مع بعض بحيث تكون كُلاً فنياً متناغماً يضفي على القاعة شعوراً بالراحة والسكينة.
بعد اجتياز الردهة، نصل الى حائط كبير من خشب الجوز المصري المنحوت، تتخلله نجوم من الزجاج المشطوف الذي يكسر شعاع الضوء. وثمة باب غير مرئي عبر الخشب المنقوش يقود الى المكتبة. وإذا اتجهت في آخر الردهة الى اليمين، وعبرت الأبواب المراكشية المرسومة باليد والتي يغلب عليها اللون الفيروزي، ستجد نفسك في قاعة انتظار جانبية بهيجة. كل شيء هنا مغربي، من التفاصيل الدقيقة لزخارف السقف المصنوع من الجبس، الى الجدران والأعمدة المزركشة بالفسيفساء، والسجادة التي تتوسط القاعة. وكل هذه الأشياء الجميلة مصنوعة يدوياً.
بعد بهو الانتظار المغربي قاعتان هما بمثابة متحف للفنون الإسلامية. القاعة الدمشقية تستعمل كديوانية، يجتمع فيها الزوار للاستراحة بعد المشاركة في الاجتماعات والندوات. تحفّ بجدرانها المقاعد الوثيرة، وتتوسطها نوافير المياه الرخامية المرصعة بالحجارة الملونة والمزركشة بالفسيفساء. أما جدرانها فمقسمة بخطوط عريضة من الحجر الأصفر والأبيض والأسود، وهذه تبرز اللون الأخضر الزيتوني الذي يسيطر على النقوش الإسلامية الرائعة في سقف القاعة المصنوع من الخشب. كل شيء هنا سوري، والتفاصيل الدقيقة كافة أخذت في الاعتبار، حتى مضخات إطفاء الحرائق تم اخفاؤها بعناية داخل النقوش الأرابسك لكي لا تفسد الشكل الجمالي الانسيابي. أما القاعة التونسية في الجهة المقابلة فتضاهي في جمالها ورونقها شقيقتها السورية. انها مزيج متكامل من الصناعات الحرفية العربية والتنوع الثقافي والفني. فالأقواس المصنوعة من الحجر الأردني تم صقلها بفن وعناية، وهي تحيط كالإطار مجموعة رائعة من الجداريات المستطيلة المصنوعة من السيراميك التونسي الشهير.
شفافية الفضاء وصلابة الأهرام
كان هذا الطابق الأرضي فقط!
إذا صعدت بهدوء على سلّم الرخام من قاعة الانتظار المغربية الى الطابق الأول، وكلما اقتربت الى فوق، يمكنك أن تميز مزيجاً من الأنغام التي هي خليط بين زقزقة العصافير وخرير المياه. فجأة، ومن دون توقع، ترى أمام عينيك الخضرة والنور والمساحة الواسعة. قد يبدو الأمر مربكاً في الوهلة الأولى، ولكن بعد قليل يتسرب إليك شعور بالرهبة والمتعة معاً. هذا هو الفناء الرئيسي، أي قلب المبنى، وهو عمل معماري يدل على البراعة والقوة في آن.
تخيل الارتياح الذي ينتاب المرء حين يجد نفسه في قلب المكان محاطاً بثمانية طوابق يملأها هواء نقي. السماء تمتد بلا نهاية فوق الفناء الرئيسي حيث لا تعوقها الواجهة الزجاجية الكبيرة. هنا توجد الأشجار التي تبلغ من العمر أربعين عاماً، والنباتات الضخمة بزهورها الجميلة، والنافورة السورية التي تتوسط المكان. وعلى أحد جوانب الفناء وضعت الطاولات والكراسي، فهو المكان المخصص لشرب القهوة، ومن هنا يمكنك أن تتأمل عظمة الفن المعماري والديكور الخلاب. بالنسبة الى المسلمين القدماء، كان البستان هو رمز الجنة، وأصبح من أهم عناصر العمارة العربية القديمة. هذا الفناء الداخلي هو مثل حي على روعة اللقاء بين القديم والحديث في هذا الصرح الشامخ. إن الشعور بالرحابة الهائلة والانطلاق الذي يغمرك وأنت تدخل الردهة الرئيسية يعود في المقام الأول الى الواجهة الزجاجية المعلقة التي تغطي خمسة طوابق من المبنى، وهي أطول واجهة من نوعها في العالم.
الجدران والفواصل بين الغرف في جميع طوابق المبنى مصنوعة من الزجاج، وهذا يعطيك احساساً بأنك في حوض للأسماك (أكواريوم). فإذا وقفت في أحد أطراف المبنى، يمكنك أن ترى الطرف الآخر بسهولة، ويتخلل نظرك المبنى بكامله. كان مبدأ الشفافية أساسياً جداً لفكرة المبنى منذ البداية، بحيث يتمتع الموظفون كافة بهذا الشعور بالرحابة والانطلاق. وأدخل في التصميم بهوان صغيران للعاملين في الطوابق الرابع والخامس والسادس، وبهوان آخران للعاملين في السابع والثامن والتاسع. وهذه إحدى المفارقات الكثيرة التي تلاحظها في المبنى: فداخله يوحي لك بأنك تحلق بوزن الريشة في فضاء فسيح بلا حدود، وعلى العكس تماماً، خارج المبنى يعطي مظهر القوة والصلابة والقسوة التي تميز أهرام قدماء المصريين.
ضوء طبيعي بلا ظلال
من التحديات التي صادفت تصميم المبنى إمكان عزل الحرارة الخارجية مع الاحتفاظ بالضوء. وقد تم التوصل الى ذلك بدراسة متأنية لزوايا أشعة الشمس التي تنعكس على المبنى طوال السنة. وصممت النوافذ في اتجاهات مختلفة بحيت لا تسمح بدخول أشعة الشمس الى المبنى بصورة مباشرة. كما صممت الانارة الكهربائية لتعطي الضوء الطبيعي ولكن من دون أن تكوّن ظلالاً.
ومع كل هذا الضوء والفضاء الذي يملأ المبنى ليس هناك شعور بالفراغ، بل على العكس تماماً، ثمة شعور بالعمق والوزن. فالفناء الرئيسي تزينه مشربية مصرية الصنع تعلو ثمانية طوابق، ربما هي أيضاً تضرب الرقم القياسي في الضخامة عالمياً. والمشربية، كستارة بديعة الصنع والجمال، هي من العناصر المنتشرة والمتكررة في المبنى كله. في العادة، كانت المشربية تستعمل لتحمي حرمة البيت، اذ تسمح للحريم برؤية الخارج من دون أن يراهن أحد. لكن الآية انقلبت في هذا المبنى، حيث وضعت جميع المشربيات في الداخل حول الردهة الرئيسية، واصبحت جزءاً مكملاً للزينة الداخلية للمبنى. وقد صنعت جميعها يدوياً بالطريقة التقليدية، أي من دون استعمال الصمغ أو المسامير، تماماً كما كانت تصنع في عهد المماليك.
في الطابق الرابع أيضاً قاعة مملوكية تعود بك الى القرون الوسطى. فترى المشربيات تغطي النوافذ، والجدران مكسوة بألواح الخشب المحفور، والسقف المصنوع من خشب السنديان يهبط بثقل فوق الطاولة الضخمة التي تتوسط القاعة والمطعمة بأنواع مختلفة من الخشب المتعدد الألوان. ربما تصلح هذه القاعة لقصر شيد في القرن السادس عشر، لولا أنها زودت بأحدث تقنيات قاعات الاجتماعات الكبرى.
أما في الليل، فيتغير المبنى تماماً، ومن الموقع نفسه فوق الشرفة. فجأة تظهر أبعاد جديدة، وعبر الحائط الزجاجي يمكنك أن تلمح عدداً لا يحصى من الثريات، وآلاف الصور الظلية الرائعة للمشربيات التي تتضخم وتنكمش كلما تحركت. كما تبدو أعماق جديدة على الزجاج، تعطي شكل مرآة ثلاثية الجوانب. وعلى كل طابق من المبنى تسطع الأضواء الكشافة مثل أجرام سماوية فوق الفناء الممتلئ بالأشجار. ويشعر المرء كأنه يحلق في الفضاء في مكعب ضخم من زجاج.
روح الوحدة العربية
الفكرة الأساسية للمبنى تركز على أن يكون عملياً ومريحاً في آن. ويمكن الوصول الى أي أنبوب أو مجرى يحوي أسلاكاً كهربائية أو غير ذلك عن طريق نظام الأرضية المرفوعة. كما يمكن الوصول الى أجزاء المبنى كلها من الداخل والخارج بيسر لغرض الصيانة. وجميع النباتات مزروعة من دون تربة لتفادي إصابتها بالبكتيريا. أما الأشجار فقد زرعت في أحواض ماء دوارة، بحيث يمكن توجيهها نحو الضوء أو بعيداً عنه كما تملي الحاجة.
إن المقر الدائم للمنظمات العربية، في فكرته وتصميمه وتنفيذه، ما هو إلا شهادة على المبادرة والتصور الخلاق في فن العمارة، في وقت كثر فيه التقليد والمحاكاة في جميع أنحاء العالم. الابتكار هو نقطة الارتكاز في هذا الصرح العظيم. إن الزخرفة الداخلية لا تحظى عادة بالاهتمام الذي يمنح للعمارة، ولكن في هذه الحالة نالت الزخرفة القدر نفسه من العناية كالأساسات. إن دمج الخامات الحديثة كالصلب والزجاج والاسمنت مع الحرف التقليدية كالفسيفساء والخشب المطعّم وزخرفة الأرابسك، بهذه الصورة، هو انتصار للإبداع الفني العربي. المبنى متحف عملي، ومصدر وحي لسعداء الحظ الذين يعملون في داخله. وهو يمثل مجموعة من العناصر المتعددة والثقافات المختلفة، ومن الصعب تصور صرح آخر يجسد روح الوحدة العربية.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.