انعقد في مدينة بارما الإيطالية الشهر الماضي مؤتمر عالمي حول هوية المواد الغذائية المتوسطية وجودتها وسلامتها. نظمت المؤتمر السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية والمركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة في حوض البحر المتوسط. وهي هيئة أوروبية مستقلة أنشئت في بارما عام 2002، وتتمثل مهامها الأساسية في تقديم تقارير علمية لدول الاتحاد الأوروبي في مجال سلامة الأغذية البشرية والحيوانية، ومساعدة أصحاب القرار على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة المخاطر الصحية ذات العلاقة بالتغذية. وشارك في المؤتمر المركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة في منطقة المتوسط، المعروف باسم مركز "سيام". وهو منظمة حكومية أنشئت عام 1962، ويهتم أساساً بالبحث العلمي والتدريب والتعاون في المنطقة المتوسطية في مجال الزراعة والصناعات الغذائية والتنمية الريفية المستدامة. ولديه أربعة معاهد عليا في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا واليونان، ويضم اليوم 13 بلداً هي ألبانيا والجزائر ومصر وإسبانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا ولبنان ومالطة والمغرب والبرتغال وتونس وتركيا.
المفارقة الكبرى
أشار الدكتور برتران هرفيو، أمين عام مركز "سيام"، في مستهل أعمال المؤتمر إلى أن غالبية بلدان المتوسط الشمالية والجنوبية أصبحت اليوم تستورد المواد الغذائية الأساسية، وأن مسألة الأمن الغذائي في بلدان المتوسط الجنوبية أصبحت تتجاوز قضية المخاطر الصحية الناجمة عن نمط استهلاك مواد غذائية لا علاقة لها بالمنطقة. وشدد على ضرورة إيجاد تسوية في هذه البلدان لما يعرف بمصطلح "الماء الافتراضي". ويستخدم هذا المصطلح عادة لنعت كميات المياه العذبة التي تستغل لإنتاج المنتجات الزراعية المعدة للتغذية. ومن وجوه المفارقة الكبرى في بلدان المتوسط الجنوبية اليوم أنها تسعى جاهدة لاستخدام الموارد المائية العذبة التي أصبحت نادرة لإنتاج مواد تستهلك كميات كبيرة من المياه، وتصدر في أغلبها إلى الأسواق الأوروبية. وتساءل هرفيو عما إذا كان المنطق السليم يستدعي الاستمرار في هذا النهج، والحال أن شرائح كثيرة من مجتمعات البلدان المتوسطية الجنوبية تشكو من العطش ولا سيما في الأرياف والمناطق النائية.
ولعل ما هو غريب أكثر في هذه المفارقة الكبرى أن سكان ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية أصبحوا خلال السنوات الثلاثين الماضية يسرفون في تناول أطعمة أو في التعامل يومياً مع أنماط غذائية تساهم في انتشار أمراض قاتلة. وأكد الباحث الفرنسي جان لوي راستوان أن 54% من الوفيات المسجلة في المنطقة المتوسطية تعزى إلى أمراض لها صلة بسوء التغذية، وبخاصة الإسراف في تناول الأطعمة المشبعة بالدهون وغير المتوازنة. ومن هذه الأمراض بشكل خاص البدانة المفرطة التي ينتظر أن تتحول في العقود المقبلة إلى غول يلتهم الكبار والصغار.
وأجمع المشاركون في المؤتمر على أن هناك حاجة ملحة اليوم إلى عودة سكان حوض المتوسط إلى النظام الغذائي المتوسطي، الذي أثبتت الدراسات العلمية أنه أهم نظام صديق للصحة البشرية، باعتباره يقوم أساساً على الخضر والغلال وزيت الزيتون والحبوب. وهو نظام جيد لأنه قائم أصلاً على التنوع والتوازن بين العناصر الغذائية التي يحتاج إليها الجسم.
الحفاظ على الموروث الغذائي المتوسطي
لاحظ عدد من المشاركين في المؤتمر أن هناك محاولات جادة للسطو على الموروث الشعبي الغذائي في منطقة المتوسط. وفي هذا السياق أكد الدكتور روبرتو بورديزي، رئيس منظمة "سلوفود إيطاليا" المدافعة عن حقوق المستهلكين، أن شركات أميركية حاولت السطو على جبن "البارميسان" الإيطالي الذي يصنع في مدينة بارما والمناطق المجاورة لها، عبر أميركيين من أصل إيطالي سعوا إلى تسويق جبن بالاسم نفسه، بعد حصولهم على شهادات تقر جودة المنتج. وحرصت هذه الشركات على تسويقه كما لو كان منتجاً أميركياً. وخلص بورديزي إلى القول إن منتجي جبن "البارميسان" الإيطاليين استطاعوا التصدي لعملية السطو هذه عبر علامة المنشأ، التي تقر بأن "البارميسان" الأصلي هو ذلك الذي يحمل ختماً يؤكد أنه مصنوع في مدينة بارما الإيطالية والمناطق المجاورة لها.
ولكن تأكد عبر عدد من المداخلات أن كثيراً من الأطعمة والمنتجات الغذائية التقليدية المندرجة في إطار الحمية المتوسطية تتعرض اليوم للسطو من قبل شركات أجنبية على مرأى ومسمع من أولي الأمر في هذه البلدان. وبدا واضحاً أن السلطات الوطنية والإقليمية والمزارعين والمستهلكين في منطقة المتوسط الجنوبية غير واعين بالأخطار المحدقة اليوم بإرثهم الغذائي الشعبي، وأن بعضهم ليست لديه الإمكانات التي تسمح بالحفاظ على هذا الإرث عبر براءات المنشأ وعلامات الجودة الأخرى.
ولتجاوز الإشكالية اقترح السيد غي جيفا، رئيس اللجنة المتوسطية في الرابطة العالمية للمنتجين الزراعيين التي تتخذ من باريس مقراً لها، العمل على تسجيل علامة جودة تتعلق بكل المنتجات المتوسطية. وقال إن العملية شائكة ولكنها غير مستحيلة. أما الدكتور هرفيو، أمين عام مركز "سيام"، فأكد أن المركز يعمل الآن على إعداد موسوعة للمنتجات الزراعية والغذائية المتوسطية.
ديكتاتورية المقاييس
في ما يخص سلامة الأغذية وجودتها، اشتكت الدكتورة علياء محجوب زروق، المديرة العامة للوكالة الوطنية لرقابة المنتجات الصحية والبيئية في تونس، مما وصفته "ديكتاتورية المواصفات" التي تفرضها اليوم بلدان الاتحاد الأوروبي على المنتجات الزراعية والغذائية المستوردة من جنوب المتوسط. وقالت إن تونس مثلاً ليست ضد هذه المواصفات والمقاييس، بل إنها تسعى جاهدة إلى أن تكون منتجاتها خاضعة لقواعد السلامة والجودة. ولكنها اعتبرت من غير المنطقي أن يستثمر بلد نام في مختبرات لضمان الجودة والسلامة عبر دفتر شروط محدد يقترحه الأوروبيون. ويتضح بعد إقامة هذا المختبر أو ذاك أن الأوروبيين تجاوزوا هذا الدفتر إلى شروط ومواصفات جديدة. وقبل سنوات وردت على لسان خبير جزائري متخصص في الصناعات الغذائية ملاحظة شبيهة، بعد أن استمع لزميل أوروبي وهو يشرح بإسهاب المواصفات المفترض وجودها في الطعام الجيد والصحي، فقال مستنكراً: "هل أنت تصف أطعمة أم أدوية؟"
ومن أهم التوصيات التي أقرها المؤتمر عرض المشاكل التي طرحت فيه على وزراء الزراعة في بلدان المتوسط المنتمين إلى المركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة في حوض المتوسط خلال اجتماعهم الدوري السنة المقبلة، وإقامة دورات تدريبية في المعاهد التابعة للمركز، وإطلاق تخصص في أحد هذه المعاهد حول قضايا هوية المنتجات الغذائية وسلامتها وجودتها، والسعي إلى إنشاء علامة متوسطية تضمن السلامة والجودة والهوية بالنسبة إلى المنتجات المتوسطية، والعمل على الأقل لإنشاء شبكة تجمع الباحثين والمتخصصين والمهتمين بهذه القضايا.
كاترين جيسلان لانييل المديرة التنفيذية للسلطة الأوروبية لسلامة الأغذية:
مستعدون لمساعدة بلدان المتوسط الجنوبية لمواجهة المخاطر الصحية من سلوكيات التغذية
مقتطفات من حديث أجرته "البيئة والتنمية" مع السيدة كاترين جيسلان لانييل، المديرة التنفيذية للسلطة الأوروبية لسلامة الأغذية:
البيئة والتنمية: ما أهم المنجزات التي حققتها السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية؟
لانييل: هذه المؤسسة لا تزال في بداياتها باعتبار أنه لم تمض على إطلاقها إلا خمس سنوات. ومع ذلك فإنها استطاعت أن تفرض نفسها بسرعة لعدة أسباب، منها أنها وارثة التجربة الطويلة التي اكتسبتها دول الاتحاد الأوروبي في مجال سلامة الأغذية. فهي بالتالي لم تكن بحاجة إلى استنباط أنظمة لتقويم المخاطر الصحية التي لها صلة بالتغذية ومواد الاستهلاك. ولكنها لم تكتف بالاستفادة من نتاج الباحثين المنتمين لدول الاتحاد الأوروبي، بل كثفت الدعم الذي تقدمه إلى هؤلاء الخبراء. وأعتقد أيضاً أن السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية خطت خطوات هامة في اعتماد الشفافية بشأن إعلام الدول الأوروبية والمستهلكين بالمخاطر المتصلة بالأغذية في هذه الدول. كما توصلنا إلى مساعدة السلطات الأوروبية المختصة في اتخاذ القرارات اللازمة، من خلال تحديد ما هو من صلاحيات الباحثين والخبراء والعلماء من ناحية وما هو جزء من صلاحيات أصحاب القرار السياسي من ناحية ثانية. وليس ثمة شك في أن هؤلاء يتخذون قراراتهم عادة انطلاقاً من المعطيات العلمية ومن معطيات أخرى اجتماعية واقتصادية وغيرها، بما فيها حاجات المستهلكين ورغباتهم.
- ما هي المسائل الأساسية التي ينبغي أن يقوم حولها تعاون وثيق بين السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية والمؤسسات الوطنية المعنية بهذا الملف؟
- المؤسسة التي أديرها لم تنشأ بموجب قواعد هي حكر على دول الاتحاد الأوروبي، بل نحن نعتمد في عملنا قواعد ومقاييس عالمية. أما المواضيع الهامة التي نجري بشأنها أبحاثاً ونصدر حولها تقارير علمية، والتي تشكل محاور أساسية في أنشطة الوكالات والهيئات الوطنية المهتمة بسلامة الأغذية، فهي تلك التي يمكن تلخيصها في الأسئلة التالية:
- كيف يمكن تعزيز الجهود المتصلة بتنظيم آلية مراقبة سلامة الأغذية؟
- كيف يمكن ضمان جدوى الهيئات التي تعنى بسلامة الأغذية على نحو يجعلها دوماً في خدمة المستهلكين قبل كل شيء؟
- أي إطار قانوني يجب وضعه لمواجهة مخاطر اليوم والغد الصحية؟
- كيف يتسنى إيجاد منهجية للعمل البناء مع مختلف الشركاء، وخصوصاً مع الذين يشرفون مباشرة على السلسلة الغذائية عبر مختلف مراحلها بدءاً بالإنتاج ووصولاً إلى صحن المستهلك؟
- كيف يجب إعلام المستهلك بشكل مستمر وغير ممل؟
- إلى أي حد تستطيع السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية مساعدة بلدان المتوسط الجنوبية على تفعيل آلياتها التي تعنى بتقويم المخاطر الغذائية بشكل أفضل مما هو عليه الأمر اليوم؟
- أعتقد أن علينا بادئ ذي بدء أن نرسي حواراً بيننا نتعرف من خلاله بعضنا على بعض. وأحسب أن هذا المؤتمر الذي نقيمه في بارما فرصة ذهبية تندرج في هذا الإطار. ونحن مدعوون في المستقبل إلى توطيد هذه العلاقة. ولا أرى بحق أن أوروبا في موضع يسمح لها بتلقين المناطق الأخرى، ومنها منطقة المتوسط الجنوبية، دروساً في مجال سلامة الأغذية. فقد مرت هي أيضاً بأزمات غذائية حادة. ومن ثم فإن المنهجية الأسلم في هذا الشأن هي تلك التي تقتضي تبادل الخبرات وتقاسم التجارب وإطلاع المستهلكين على المعلومة الدقيقة وتقديم النصح لهم على نحو يجعلهم شركاء لا مجرد متقبلين.
ومهما يكن الأمر، فإن السلطة الأوروبية لسلامة الأغذية قادرة على مد البلدان المتوسطية الجنوبية وبلدان أخرى بتجربتها في مجال تنظيم النشاط العلمي، الذي يسمح بتقويم المخاطر في الوقت المناسب، وفي مجال التواصل مع المستهلكين. وهي قادرة أيضاً على مساعدة البلدان التي ترغب في إنشاء هيئات وطنية تعنى بسلامة الأغذية. ولكن عليها أيضاً أن تأخذ في الحسبان الحاجات الخاصة ببعض البلدان، وفي مقدمتها البلدان المتوسطية.