مبادرة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بتخصيص عشرة بلايين دولار لانشاء مرفق (صندوق) عربي لدعم البحوث العلمية والتطويرات التقنية تستحق الترحيب الخاص. هذا حلم عربي عبرت عنه الثورة الليبية في سنواتها الأولى كمشروع عربي للبحوث العلمية المتقدمة يجذب العلماء المقيمين والمغتربين في المهجر. وعبر عنه قرار القمة العربية في الرباط في سبعينات القرن العشرين بانشاء مؤسسة عربية للبحوث العلمية.
استجابة لهذا القرار طلب الأمين العام لجامعة الدول العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن تعد دراسة تفصيلية تبين الأهداف ومنهجيات العمل والاطار المؤسسي لهذا الكيان. وقد أنجزت المنظمة الدراسة التي عاون على اعدادها العالم العربي الراحل الدكتور أسامة أمين الخولي، وقدمها مدير المنظمة الدكتور محيي الدين صابر الى أمين عام الجامعة آنذاك محمود رياض، ثم نسي الموضوع.
وها هي مبادرة الشيخ محمد بن راشد تعيد الأمل في عمل يدخل بالعالم العربي الى مجالات العلم النافع.
يذكر التاريخ أن وضع العلم في نسيج المجتمع تدرّج في ثلاث مراحل:
- العلم حلية حضارية يتزين بها الفرد والمجتمع.
- العلم قوة اذ اتاح للانسان تقنيات يتجاوز بها قوة عضلاته.
- العلم ثروة بأن أتاح للانسان تقنيات الانتاج.
نرجو من المرفق الجديد أن يركز بصره على المرحلة الثالثة، وأن يتخير المجالات التي تعين على التنمية المستديمة للموارد الطبيعية، ونحدد ثلاثة مقاصد:
- سد فجوات النقص في الموارد.
- تعظيم العائد من الموارد المتاحة.
- درء الأضرار البيئية لمشروعات التنمية.
عمل المرفق قد يكون برامج علمية تحتشد لها مراكز البحوث العربية أو فرق من الباحثين، وقد يكون إنشاء مراكز بحوث متخصصة كل في واحد من المقاصد الثلاثة.
سد فجوات النقص
يمثل الجفاف ونقص المياه العذبة الفجوة الرئيسية في موارد الاقليم العربي. نحتاج الى برنامج عربي لبحوث المياه أو مركز عربي لبحوث المياه، يتركز جهده على مجالات ثلاثة: تطوير تقنيات ضخ المياه الجوفية، تطوير تقنيات تحلية المياه المالحة، تطوير تقنيات استخدام المياه المالحة في انتاج الكتلة الحية.
موارد المياه الجوفية في الاقليم العربي مياه مختزنة من زمن قديم، والتكاوين الجيولوجية حاملة المياه الجوفية تشمل الحجر الرملي النوبي (خاصة في شمال شرق افريقيا) والحجر الجيري المتشقق (خاصة في شمال غرب افريقيا)، بالاضافة الى تكاوين أخرى لاحقة في الزمن الجيولوجي. القليل من هذه المياه يرتفع بالضغط الارتوازي الى السطح (الواحات)، ولكن أغلبها يحتاج الى ضخ. المضخات المتاحة تحتاج الى تطوير يرفع من كفاءة الأداء (تطوير ميكانيكي)، وتعتمد على الطاقة التقليدية (البترول) وهي غير اقتصادية اذا استخدمت المياه للزراعة، لذلك يتوجه جهد البرنامج الى ايجاد مصادر بديلة للطاقة (الرياح، الشمس).
لدى الدول العربية في شبه الجزيرة والخليج محطات كبرى لتحلية المياه، تعتمد على طاقة البترول، وتنتج المياه العذبة التي تسد حاجات المجتمعات والحلل السكنية. المطلوب تطوير فارق لتقنيات التحلية ومصادر الطاقة، ليصبح انتاج الماء العذب قليل الكلفة ومناسباً للاستخدام في الانتاج الزراعي. قد يعني هذا استخدام مصادر جديدة للطاقة بما فيها الطاقة النووية في تشغيل محطات التحلية المتطورة.
لدى الدول العربية، خاصة تونس والجزائر، تجارب رائدة في استخدام المياه المالحة في الانتاج النباتي (محاصيل، أعلاف، خامات صناعية). وهي تجارب تحتاج الى استكمال واستزادة لتكون من عناصر التنمية.
تعظيم العائد من الموارد المتاحة
قدم أحد مراكز بحوث التنمية الألمانية فكرة ''العامل 4: تربيع الانتاج''. المقصود هو تطوير تقنيات الانتاج بما يرفع من كفاءة الاداء حتى يتضاعف مقدار الناتج (المخرجات) وينتصف حجم المدخلات (الخامات والطاقة والجهد البشري). وتزايد على هذا الحد مراكز بحثية في فرنسا. المقصود هو زيادة كفاءة العمليات الانتاجية في الزراعة والصناعة.
درجت الدراسات الحديثة في مجال تقييم الانتاج على الأخذ في الاعتبار كفاءة استخدام الطاقة (قيمة الناتج بالدولار من كل طن مكافئ للطاقة). أصبحت هذه الكفاءة من أدلة الكفاءة التنافسية للناتج، وهي القدرة التي تفتح أبواب التصدير والاسهام في سوق التجارة العالمية. الاقليم العربي في حاجة الى الدخول في هذه الحلبة ليستطيع الدخول منافساً في سوق التجارة، وليتحول من سوق فسيح يستقبل منتجات الآخرين الى مساهم في التبادل التجاري العالمي.
نذكر في هذا الصدد أن مصر تحصل على حصة محددة من مياه نهر النيل هي 55،5 بليون متر مكعب، تروي منها قرابة 7,5 مليون فدان، وتخطط للتوسع في أرض الزراعة لتصبح 11,5 مليون فدان سنة .2017 زيادة حصة مصر من مياه النيل عسيرة، وعلى مصر أن تجد السبل والوسائل التقنية التي تجعل حصة المياه الحالية تكفي لري المساحة الأوسع. هذا واحد من أبواب تعظيم العائد من الموارد المتاحة.
درء الأضرار البيئية لمشروعات التنمية
حماية البيئة من التلوث والتدهور أصبحت على جدول أعمال الدول جميعاً. هناك جهود تبذل في العديد من الدول العربية لمكافحة التلوث وحماية البيئة من التضرر الذي تسببه أنشطة الزراعة والصناعة والخدمات. تعتمد هذه الجهود على ''معالجة المشروع''، كوضع أجهزة الترسيب على مداخن مصانع الاسمنت، أو جمع المخلفات ودفنها.
البرنامج العربي المقترح يقصد مراجعات لتقنيات الانتاج في المصانع، وخاصة مصانع الاسمنت والبتروكيميائيات التي يتزايد انتشارها في مراكز الصناعة في الدول العربية. الهدف من الدراسات هو إيجاد تقنيات تقلل من المخرجات الملوثة، وتزيد من طاقات اعادة استخدام النواتج الثانوية بما يحولها من ملوثات الى خامات لمنتجات جديدة.
تنمية القوى البشرية
كل برنامج عمل في مجالات التقدم العلمي والتطوير يحتاج الى برامج لتنمية القوى البشرية اللازمة. ومن مهام المرفق العلمي المقترح في مبادرة الشيخ محمد بن راشد أن يضع خططـاً لتأهيل وتدريب العلماء والمهندسين والخبراء ومعاونيهم.