جواباً على احتجاجات حول التلوث من المصانع، في حوار مفتوح جمع وزير بيئة عربياً مع مواطنين متضررين، استعان السيد الوزير بـ''التنمية المستدامة'' لتبرير ضرورة استمرار التلويث. ''على القرى المنكوبة أن تتحمل التلوث من مصنع الفوسفات''، قال سيادته، ''لأن اغلاقه يضرب التنمية''، وهذا، برأيه، ''خدمة للامبريالية''. وشرح أن حماية البيئة أصبحت من الماضي، لأن مفهوم ''التنمية المستدامة'' حلّ مكانها، ''وهو يمنع ضرب التنمية الاقتصادية لأسباب بيئية مطلقة''.
السيد الوزير يتبنى تفسيراً متوحّشاً للعلاقة بين البيئة والتنمية، يجعل من المعايير البيئية مجرد ديكور، أو وجبة يمكن الاختيار من أصنافها وفق ما يشتهي دعاة التطور الاقتصادي المنفلت، إذ يفسّرون مفهوم ''التنمية المستدامة'' تبعاً للمصالح الاقتصادية والسياسية الضيقة، بوضع استمرار الانتاج فوق أي اعتبار، مهما كانت تأثيراته على البيئة وصحة الناس.
ما زال الفهم السائد في معظم عالمنا العربي أن التخريب البيئي ثمن لا بد من دفعه لقاء إنجاز النمو الاقتصادي، ومن ثم معالجة الآثار البيئية بعد وقوعها. فبدل الاهتمام بتقليل التلوث الناتج من المصانع عن طريق التحول إلى أساليب الانتاج الأنظف، تتركز برامج ادارة النفايات الصناعية، إذا وجدت، على التخلص من هذه النفايات بأرخص وسيلة. وبدل البحث في كيفية تقليل كمية النفايات المنزلية وطرائق إعادة تدويرها، يكاد العمل ينحصر في انشاء المزابل. لا يمكن حل هذا التناقض إلا بإدخال ثمن التخريب البيئي والاجتماعي في حسابات الربح والخسارة، وبالتالي في صلب عملية اتخاذ القرارات. وهذا يعني ادخال تدقيق الحسابات البيئية في الموازنات، من قطاع الأعمال إلى الدول.
السيد الوزير على حق في أنه لا يمكن معالجة المشكلات البيئية دفعة واحدة، خاصة في الدول النامية التي تواجه في الوقت ذاته تحديات اجتماعية واقتصادية متشابكة. لكن هذا يستدعي الالتزام بسلّم أولويات، يأخذ في الاعتبار: إلحاح المشكلة، والضرر الذي لا يمكن إصلاحه، والأثر على الصحة، والأثر على نوعية الحياة. وفي هذا الاطار، على السياسة البيئية أن توقف فوراً أي عمل ينتج عنه ضرر بيئي لا يمكن اصلاحه، حتى لو أدى هذا إلى تأخير في عملية التنمية الاقتصادية. إن حماية البيئة في المفهوم الصحيح للتنمية المستدامة تتطلب خطة تعتمد على سياسات وأدوات تنفيذية، منها:
سياسات اقتصادية ومؤسسية عامة، ذات أثر على نوعية البيئة وإدارتها. وهذه تكون في الاطارات المالية والتسعيرية والتشريعية. فالتدابير المالية هي في صيغة ضرائب وحوافز تهدف الى التحكم بأنماط الانتاج والاستهلاك وأساليب الحياة، التي تؤدي الى تدهور بيئي، كما تنطوي على دعم مادي وتسهيلات ضريبية بهدف تعميم أنماط بديلة، وتضع التشريعات والقوانين ضوابط وقيوداً على النشاطات الصناعية والعمرانية والانتاجية والاستهلاكية والانمائية عامة، لضمان مجاراتها الاعتبارات البيئية.
ولا بد من أدوات تطبيقية لضمان الالتزام بالسياسات والتشريعات البيئية، في طليعتها فرض دراسة الآثار البيئية للمشاريع كشرط مسبق للموافقة، ووضع معايير محددة لمراقبة النوعية ومقاييس ومواصفات لدرجات التلوث القصوى المسموحة.
كما يتطلب التنفيذ الفعال للسياسات البيئية على المستوى العملي تدابير مثل فرض شروط على استخدام المبيدات الزراعية وانتاجها واستيرادها، وتحديد مواصفات محركات السيارات المسموح استعمالها وفق درجة تلويثها للبيئة، وتحديد أسعار الماء والكهرباء على مستوى يضمن الاستفادة منها والتوفير في استهلاكها في وقت واحد.
وفي حين أن السياسات الجيدة اقتصادياً تكون في كثير من الأحيان مفيدة بيئياً، مثل رفع الدعم عن تسعير الماء والكهرباء والمحروقات، فهي ليست دائماً كذلك. فتحديد انبعاث الملوثات من الصناعات، مثلاً، عالي الكلفة اقتصادياً، لكنه ثمن اجتماعي لا بد من دفعه.
حين تواجهنا التفسيرات الملتوية لما قصدت إليه ''التنمية المستدامة''، بإبعادها عن حماية البيئة لمصلحة استمرار التنمية المتوحشة، تحت شعارات دعم الاقتصاد والتطور الاجتماعي، نفهم لماذا بدأ بعض الذين أطلقوها يعيدون النظر، إلى درجة الندم. فقد كان المعنى الوحيد الذي قصدوه هو أنه لا يمكن للتنمية أن تستمر لخدمة الانسان، إلا إذا حافظت على التوازن والتنوّع ونوعية الحياة.
وليست ''التنمية المستدامة'' هي المفهوم الوحيد الـذي انحرف عن غايته خلال السنوات الأخيرة. فبعد ''قمة الأرض'' في ريو دي جانيرو عام 1992، انطلقت نظرية ''المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال''، وهي ما يعرف بالانكليزية بعبارة Corporate Social Responsibility – CSR. معظم الشركات الكبرى في العالم وضعت برامج المسؤولية الاجتماعية في صلب عملها، وهي تقدم تقارير سنوية عن نشاطها في هذا المجال، إلى جانب التقرير السنوي المعتاد عما حققته من أرقام مبيعات وأرباح. حين بدأت هذه الموجة، كان من المتفق عليه أن الالتزام بحماية البيئة هو جزء متكامل من مفهوم ''المسؤولية الاجتماعية'' الأوسع. غير أن ما حصل كان مختلفاً في معظم الحالات.
فإحدى شركات انتاج السيارات الكبرى تروج لواحد من مصانعها على أنه من الأكثر احتراماً للبيئة، من خلال التوفير في استهلاك الطاقة والتدوير، في حين أن هذا المصنع ينتج إحدى أكثر السيارات تلويثاً في العالم. وإحدى شركات المرطبات قامت بحملة ترويجية ضد تدوير العبوات الفارغة تحت شعار ''إشربها ولا تردّها''، في حين كانت تتبرع لجمعية بيئية ببعض المال من أجل حملة دعائية لزرع بضع مئات من الأشجار.
هكذا، تم الانحراف بمفهوم ''المسؤولية الاجتماعية''، لينحصر في تبرّعات لأعمال خيرية مع إهمال الشأن البيئي، الذي يبدأ في تحويل عمل الشركات الى أساليب الانتاج الأنظف. وكأنه أصبح من المسموح أن نستمر في التلويث وهدر الموارد لمضاعفة الأرباح، ثم نحاول الحصول على مغفرة للخطايا عن طريق دفع بعض ''المال الحرام'' كتبرّعات للأعمال الخيرية.
من حسن الحظ أن الصورة ليست بهذا السوء، في المطلق. فبعض الشركات تلتزم ببرامج فعلية لرعاية البيئة في عملها ونشاطاتها. ومن الأمثلة إحدى كبريات شركات النقل والاتصالات في العالم، التي ألزمت نفسها بحدود قصوى على مستوى الانبعاثات المسموحة من اسطولها الجوي والبري، تفوق المعايير المفروضة في الدول التي تعمل فيها. وهي وضعت معايير صارمة لمواصفات السيارات التي يمكن لموظفيها شراؤها بقروض من الشركة، وفق حدود قصوى لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون واستهلاك الوقود. كما وضعت حدوداً لاستخدام الورق والطاقة داخل مكاتبها، ومنعت استئجار أو شراء أية أبنية لمكاتبها ومستودعاتها إن لم تنطبق عليها مواصفات الأبنية الصديقة للبيئة، بمعنى توفير الطاقة والاضاءة الطبيعية والقرب من وسائل النقل العام.
غير أن التزام الشركات الخاصة وحدها بمعايير بيئية صارمة لا يكفي. فإذا لم يكن هذا في اطار سياسات وطنية يتم تطبيقها على الجميع، تفقد هذه الشركات قدرتها التنافسية، وتصبح كطير يغرّد خارج السرب.
من العلامات المضيئة في اطار تطوير سياسات وطنية تدعم الالتزام البيئي في القطاع الخاص، الخطة التي أعلنتها حكومة أبوظبي الشهر الماضي تحت عنوان ''أجندة السياسة العامة 2007 ـ .''2008 فقد خصصت هذه الخطة فصلاً كاملاً للبيئة، لم يكتف بتحديد السياسات والاستراتيجيات العامة، بل وضع أهدافاً تفصيلية لادارة الهواء والمياه والأراضي والطاقة والنفايات. واللافت في ''أجندة أبوظبي'' أنها لم تحصر الاعتبار البيئي في عنوان واحد، بل أدخلته في جميع فصولها، من الطاقة الى النقل والسياحة والتخطيط العمراني والتربية. هذه خطوة كبيرة على الطريق الصحيح، لأن الأنظمة العامة هي الاطار الأهم الذي يضبط التزام القطاع الخاص بالمعايير البيئية.
أما بعد، فلا بدّ من عودة إلى الجذور، فلا نسيء تفسير ''التنمية المستدامة'' لنلغي أولوية ''حماية البيئة''، ولا نستغل مفهوم ''المسؤولية الاجتماعية'' لنتناسى الالتزام بضرورات ''المسؤولية البيئية''.