الحوادث القليلة التي وقعت في محطات الطاقة النووية في بعض الدول وصاحبها تسرب للمواد المشعة أسفرت عن مشاكل بيئية وصحية لا يزال العلماء عاكفين على دراسة تأثيراتها. فهي تنتقل بسرعة متجاوزة الحدود السياسية لتغطي مناطق بعيدة وتبقى مئات السنين خطراً كامناً رهيباً على صحة الأحياء والبيئة.
تلك الحوادث، التي يمكن أن تعزى الى مسائل تقنية، يمكن أيضاً أن تكون ناتجة عن كوارث طبيعية في مناطق ليست بمنأى عنها. فعلى سبيل المثال، قامت اليابان بعد حدوث زلزال مؤخراً بإغلاق أكبر محطة نووية على أراضيها خشية أن تكون تصدعات أصابت المحطة. وقد كان القلق دولياً، وليس إقليمياً فقط، خوفاً من تداعيات الزلزال الذي ضرب المنطقة.
الحوادث في محطات الطاقة النووية تنتج غالباً من انبعاث للمواد المشعة التي يمكن أن تحملها الكتل الهوائية مسافات تنتشر خلالها لتغطي مساحات واسعة، وقد تترسب لاحقاً في أماكن تبعد مئات الكيلومترات عن المصدر. ومن أصعب الأمور في دراسة فرضية الحدث تحديد العلاقة بين مصدر الانبعاث والمتلقي، التي تعتبر ضرورية لمعرفة مدى تأثر منطقة جغرافية محددة بالمواد المشعة و''الطرق'' التي يمكن أن تسلكها الملوثات، مما يتيح وضع مراكز المراقبة والرصد المبكر ويشكل عنصراً هاماً في تخفيف حدة هذه الحوادث. وليس أدل على ذلك من حادث مفاعل تشرنوبيل في نيسان (أبريل) 1986 الذي لا تزال مجتمعات عديدة في أوروبا تعاني من آثاره التي غطت مساحات شاسعة بعيدة عن مصدر الحادث.
من هنا، لا يمكن اعتبار منطقة الشرق الأوسط استثناء. فقد برز في السنوات الأخيرة قلق يتعاظم من حدوث خلل تقني وتسرب كبير للمواد المشعة من مفاعل ديمونا الذي تشغّله إسرائيل في جنوب صحراء النقب. ويزداد القلق مع إمكان حدوث زلزال في منطقة تقع ضمن حزام النشاطات الزلزالية، مما قد يؤدي الى كارثة عالمية. وقد تسربت معلومات وصور عن هذا المفاعل الذي يعتبر غاية في السرية، تشير الى احتمال حدوث تسرب داخله وخارجه. ولا تزيد المسافة من مفاعل ديمونا الى الدول المجاورة على 300 كيلومتر. والسؤال الذي يجب أن يطرح اذا افترضنا حصول تسرب إشعاعي نتيجة حادث ما: كيف سيكون شكل انتقال الملوثات الخطرة وانتشارها، وما هي المنطقة التي يمكن أن تتأثر، مع الأخذ في الاعتبار الأحوال الجوية السائدة التي تعتبر العامل الحاسم في نقل الملوثات؟
للاجابة عن هذا السؤال، تم اختيار إقليم جغرافي محدد وتوفير جميع المعلومات الطبوغرافية والفيزيائية الخاصة به ومعلومات عن الحالة الجوية السائدة ومعطيات الرصد الجوي الخاصة، واستخدمت هذه المعطيات في نموذج رياضي يحاكي انتشار الهواء ضمن مقياس إقليمي.
مفاعل عمره 50 سنة
تشير المعلومات المتوفرة إلى أن إسرائيل، منذ تأسيسها، بدأت البحث بشكل حثيث في جيولوجية صحراء النقب للتنقيب عن اليورانيوم. ومع أن المعلومات المنشورة لا تشير الى العثور على كميات هامة من هذا العنصر، إلا أن ثمة معلومات عن أن إسرائيل استطاعت تحديد كميات منه يمكن استعادتها في رواسب الفوسفات. وقد أخذ هذا البرنامج منحى آخر بعد تأسيس الوكالة الاسرائيلية للطاقة الذرية عام 1952.
على صعيد آخر، طلبت إسرائيل مساعدة من فرنسا عام 1950 لبناء مفاعل نووي. وفي 1957 وقع الطرفان اتفاقية بناء مفاعل بقدرة 24 ميغاواط. وقد تم بناؤه لاحقاً في ديمونا بسرّية وبتعتيم عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بواسطة تقنيين فرنسيين وإسرائيليين. هذا المشروع الكبير كشفته طائرة تجسس أميركية عام 1958. وفي 1960 نشرت الولايات المتحدة تقريراً جاء فيه أن مفاعل ديمونا هو خرق لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأن برنامج إسرائيل النووي هو حقيقة لا رجعة فيها. وفي العام 1986 قام التقني النووي الاسرائيلي مردخاي فعنونو بتسريب معلومات أخرى عن المفاعل، استند اليها بعض العلماء ليقدروا قدرته بنحو 150 ميغاواط.
لم يبق مفاعل ديمونا سراً عن أعين السوفييت عام 1971 حين صوره القمر الاصطناعي كورونا. وفي العام 2000 قام موقع اتحاد العلماء الأميركيين على الانترنت بنشر مجموعة من الصور العالية الجودة للمفاعل التقطها القمر الاصطناعي إيكونوس. وكانت طائرة روسية قامت عام 1989 بتصوير المفاعل بواسطة الأشعة تحت الحمراء، وبينت تحليلات الصور أن هناك دلائل قوية على حدوث تسرب للمواد المشعة بفحص حزام النباتات حول المفاعل. وفي 1998 نشرت الصحيفة الاسرائيلية ''يديعوت أحرنوت'' مقالاً للخبير النووي الأميركي هوارد هوفه تحت عنوان ''المفاعل الاسرائيلي على شفا الانهيار'' ذكر فيه: ''ان التلف الذي أصاب المبنى المعدني الذي يغلف المفاعل خطير للغاية ويمكن أن ينهار بسبب المستوى العالي للإشعاعات''.
وفي العام 1997، نشر المحامي والأكاديمي الاسرائيلي ريتشارد لاستر حيثيات ترافعه أمام المحكمة العليا الاسرائيلية في قضية 40 عاملاً في مفاعل ديمونا ثبتت إصابتهم بالسرطان وكسبوا قضايا التعويض التي رفعوها ضد الحكومة الاسرائيلية، مع أن القضية أخذت وقتاً طويلاً. ومما يثير الاهتمام في ما نشره لستر أن ''آلية مراقبة صحة العاملين في المفاعل النووي لاحتمالية تعرضهم للإشعاع كانت غير ملائمة عندما تم بناء المفاعل، وقد بقيت على حالها غير ملائمة زمناً طويلاً''.
من الجدير ذكره أن إسرائيل وباكستان والهند هي الدول الثلاث التي رفضت توقيع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) التي تطبق من خلال المعاينة والحظر. وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤتمر العام لهيئة الطاقة الذرية 13 قراراً منذ العام 1987 تناشد إسرائيل الانضمام الى المعاهدة، لكن هذه ضربت بها عرض الحائط.
بناء على كل ذلك يجب دق ناقوس الخطر. فمع تقادم الزمن تزداد احتمالية حدوث ما لا تحمد عقباه، خاصة أن إسرائيل تصنف الثانية بعد بريطانيا في امتلاكها للبلوتونيوم العالي الدرجة، والسادسة عالمياً في كمياته المتراكمة لديها، مما يجعل من أي حادث تسرب كارثة محتملة يمكن أن تتعدى منطقتنا. أضف الى ذلك السرية المطلقة وعدم قدرة المشرّع الاسرائيلي، أي الكنيست، حتى على مناقشة إجراءات السلامة للمفاعل باعتبارها من المسائل المحرمة.
نشر الملوثات في الجو
يخضع انتقال الملوثات الاشعاعية وانتشارها في الهواء لمعايير ثلاثة تعتمد المقاييس الطولية والزمنية، وهي: المقياس الميكرو أو المحلي، والمقياس الميزو أو الاقليمي، والمقياس الماكرو أو العالمي. وهو يرتبط بالمسائل الفيزيائية الخاصة بحالة التسرب. ففي المقياس الميكرو، تلعب البنية المحيطة بمصدر التلوث دوراً رئيسياً، ويزيد تأثيرها عند وجود ظاهرة الانعكاس الحراري (heat inversion) فتنتقل الملوثات وانتشر وتترسب في مناطق لا تتعدى مسافة بضعة كيلومترات. وهذا ما حصل في حادثة بوبال في الهند أواخر 1984، عندما انطلقت الملوثات الغازية من الصهاريج المضغوطة لشركة يونيون كاربايد، وانحبست في فترة حدوث ظاهرة الانعكاس الحراري في المنطقة، وقتلت على الفور آلاف المواطنين، ولا يزال تأثيرها الى يومنا هذا.
وفي المقياس الميزو أو الاقليمي، تنتقل الملوثات وتنتشر عبر مسافات تصل الى عشرات أو مئات الكيلومترات، وزمن يتراوح بين يوم وأسبوع. وتلعب الطبوغرافية واستخدامات الأراضي والمسطحات المائية دوراً أساسياً في التأثير على عملية الانتقال والانتشار. وغالباً ما تحدث حركة رياح سائدة تميز المنطقة، مثل رياح الجبل والوادي، ونسيمي البر والبحر، إضافة الى بعض الظواهر التي تحصل في مناطق جغرافية محددة، مثل ظاهرة نطاق الضغط المنخفض الفارسي الذي يسود في فصل الصيف ويمتد من مركزه في الخليج باتجاه السواحل التركية الجنوبية وشواطئ البحر المتوسط الشرقية.
أما المقياس الماكرو أو العالمي فيقل معه تأثير ظواهر حركة الكتل الهوائية، التي تتأثر باستخدامات الأراضي وخواصها الفيزيائية والشكل الطبوغرافي، لتعتمد أساساً على التبادل الحراري بين مسطحات اليابسة والمياه الناتج من التسخين الشمسي نهاراً وفقدان الحرارة ليلاً. وعليه تكون مناطق الضغط المنخفض والمرتفع ودوران الكرة الأرضية وحركة الكتل الهوائية تبعاً للضغوط الجوية هي المعيار.
وقد طور العلماء طرقاً وتقنيات مختلفة لدراسة انتقال الهواء وانتشاره، تندرج تحت ثلاث تقنيات رئيسية:
1. تقنيات وأجهزة قياس تعطي نتائج واقعية، ولكنها تقتصر على الأماكن التي تستخدم فيها ولا تعتبر مجدية عند الحديث عن منطقة جغرافية ممتدة.
2. النفق الهوائي (wind tunnel) الذي يتيح خلق ظروف تشابه الوضع الحقيقي، وباستخدام نظريات رياضية تعتمد التشابه يمكن دراسة حركة الهواء وانتشاره.
3. استخدام الكومبيوتر من خلال بناء نماذج محاكاة رياضية تستند الى نتائج التقنيات المذكورة أعلاه، ويمكن من خلالها دراسة حركة الهواء والملوثات في جميع المقاييس. ومع تطور قدرة الكومبيوتر ازداد الاعتماد على تقنيات المحاكاة وتم بناء نماذج رياضية أعطت نتائج جيدة.
وقد طورت جامعة كارلسروه في ألمانيا وجامعة ثيسالونيكي في اليونان نموذج محاكاة الانتشار الجوي meso-scale atmospheric dispersion model (MEMO). وهو يعتمد مجموعة من العلاقات الفيزيائية والرياضية تحكم حركة الكتل الهوائية في مقياس إقليمي، خلال شبكة ثلاثية الأبعاد تعتمد خواص الطبقة الطبوغرافية الفيزيائية والمسطحات التي تشكلها والمعلومات الخاصة باستخدام الأراضي. يستخدم هذا النموذج الكومبيوترات الجبارة (super computers) في تنفيذ اجراءات المحاكاة بالاعتماد على المعلومات والبيانات التي يتم تلقيمها. وقد اعتُمد في دراسة كثير من الظواهر الجوية ذات المقياس الاقليمي وأعطى نتائج جيدة جداً، ولهذا تم اعتماده كنموذج أساسي لمحاكاة انتشار الملوثات في المناطق الأوروبية (EZM-EUROTRAC Program).
الطبوغرافية واستخدامات الأراضي
تم بناء ملفات معلوماتية خاصة بالمنطقة الجغرافية شرق البحر المتوسط لمحاكاة حركة الهواء الجوي عليها. هذه المنطقة التي تقع ضمن المنطقة الآسيوية الجافة وشبه الجافة، وتمتد على مساحة 250 ألف كيلومتر مربع، تضم فلسطين المحتلة وإسرائيل ولبنان وأجزاء من سورية والعراق وتركيا ومصر وقبرص والبحر المتوسط. في هذه المنطقة الجغرافية تقع محطة ديمونا النووية.
اختيرت المعطيات الجوية التي تمثل الحالة السائدة في فصل الصيف (من تموز / يوليو الى أيلول / سبتمبر 1994) حيث يسود نسيم البحر والبر ورياح الجبال الشرقية، كما تتأثر المنطقة بالمنخفض الفارسي الذي يؤدي الى هبوب الرياح الغربية ـ الشمالية والرياح الغربية. هذه الرياح ضعيفة على السواحل، لكنها تشتد داخل اليابسة خلال النهار والليل، وتسود هذه الحالة الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط من منتصف أيار (مايو) حتى تشرين الأول (أكتوبر).
استخدم الكومبيوتر SVP 300 الخاص بجامعة كارلسروه لمحاكاة حركة الكتل الهوائية على ارتفاع 10 أمتار من سطح الأرض، التي تمثل يوماً كاملاً (24 ساعة) من فصل الصيف في الأجواء السائدة. وقد تطلبت إدارة هذا النموذج 90 دقيقة، ما يعطي مؤشراً لكثافة العمليات الحسابية التي يقوم الكومبيوتر بإجرائها.
تتميز هذه المنطقة بالجبال والمرتفعات التي تمتد من الشمال الى الجنوب، وتقترب جداً من شاطئ البحر المتوسط شمالاً وتبتعد عنه جنوباً لتصل الى نحو 40 كيلومتراً داخل اليابسة، ويبلغ أعلى ارتفاع فيها 3000 متر عن سطح البحر. وبموازاة سلسلة الجبال والشاطئ يقع جرف نهر الأردن، الذي يضم البحر الميت حيث يتعدى انخفاضه 400 متر عن سطح البحر ليشكل مع سلسلة الجبال المحيطة شكلاً طبوغرافياً فريداً. وقد تم الحصول على المعطيات الطبوغرافية ومعطيات استخدامات الأراضي اللازمة لنموذج المحاكاة الرياضي من مركز الخدمات الجيولوجية في الولايات المتحدة.
الصور التي أنتجها الكومبيوتر تبين بوضوح ظواهر حركة الهواء الخاصة بالمقياس الاقليمي، بما فيها رياح النسيم ورياح الجبل. ويمكن أن نرى التطور الزمني لحركة الكتل الهوائية وامتدادها شمالاً وشرقاً وجنوباً، والتي تتفق والقياسات التي تمت خلال فصول الصيف، مما يعطي دلالات واضحة على أن انتشار أي ملوثات خطرة تحملها الكتل الهوائية من مصدر في موقع مفاعل ديمونا سيتعدى منطقة المفاعل الى مسافات واسعة شمالاً وشرقاً وجنوباً. وبالنظر الى سرعة الرياح وحركتها، وبافتراض أن حادث تسرب حصل خلال فصل الصيف أو ضمن نطاق الحالة الجوية السائدة، أو حتى في فصول أخرى، فإن منطقة شاسعة تمتد شمالاً وصولاً إلى لبنان وشرقاً الى الأردن وجنوباً الى السعودية ومصر، إضافة الى فلسطين المحتلة والتجمعات داخل إسرائيل، قد تتعرض للجرعة الأولى خلال الساعات الأربع والعشرين الى الثماني والأربعين الأولى من حدوث التسرب.
أما الأثر المصاحب لسيناريو كهذا فهو التأثير المباشر على الصحة العامة وعلى جميع الكائنات الحية الموجودة ضمن هذا النطاق، بل سيتعدى ذلك الى تلوث مصادر مياه الشرب والتربة والهواء بمواد مشعة غاية في الخطورة تبقى فاعليتها لعشرات بل مئات السنين.
السؤال الأساسي المطروح هو: ماذا فعلت دول المنطقة للوقاية من كارثة تشير دلائل كثيرة الى إمكان حدوثها؟ والسؤال الآخر للمجتمع الدولي: كيف سيتعامل مع كارثة كهذه حين يتعدى تأثيرها الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي طلب الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان من الساحر ديفيد كوبرفيلد أن يخفيها عن الكرة الأرضية!