كانت غالبية مدن الدول النامية قبل نصف قرن مدناً هادئة إلا من أصوات البائعين المتجوّلين، والضجيج الصادر عن بعض الصناعات اليدوية، والسيارات القليلة التي تعبر الطرق بين الفينة والأخرى. ولكن هذا الواقع تبدل جذرياً في الوقت الراهن، فقد غدت المدن الكبيرة والصغيرة، وحتى القرى، مكتظة بالسيارات والدراجات النارية والمصانع، إضافة الى الطائرات التي تجوب الأجواء، حتى بات من الصعب في العديد من المدن أن نجد مكاناً هادئاً ولو داخل حجرات النوم.
لقد أدرك الإنسان منذ آلاف السنين الانعكاسات السلبية للضجيج، إذ تشير الكتابات التي وجدت في سومر وبابل الى الملل والسأم من المدينة بسبب الضجيجالناتج من النشاطات البشرية.
وفي المدن الإغريقية كان يمنع الضجيج ليلاً، وفرشت الشوارع حيث يقيم الفلاسفة بمواد تقلل من وقع العجلات وحوافر الخيل، ومنعت اقامة الصناعات المعدنية في مراكز المدن، إذ كان الإغريق يعتبرون أن الضوضاء تحد من قدرة الفلاسفة والمفكرين على العطاء. أما دانتي، مؤلف ''الكوميديا الإلهية''، فقد اعتبر الضجيج من عمل الشيطان، ذلك أنه يقضي على التركيز ويحول دون الابداع.
بدأ الضجيج يثير الاهتمام في منتصف القرن العشرين، وخاصة بعد معرفة العلاقة بينه وبين أمراض نقص السمع والتوتر والاضطرابات التي تصيب الجهاز القلبي الوعائي. وهو يعدّ واحداً من المشكلات البيئية ذات التأثيرات السلبية في صحة الإنسان. ويؤدي، في حال التعرض المديد ولأعلى من مستويات معيّنة، الى الإعياء السمعي وربما نقص في حاسة السمع، إضافة الى تأثيرات فيزيولوجية تنتج منها اضطرابات في الجهاز القلبي الوعائي، كانقباض الأوعية الدموية المحيطية وتغير انتظام النبض وارتفاع ضغط الدم والأرق، إضافة الى اضطرابات في الجهاز الهضمي والجلد.
وتشير بيانات المعهد الوطني الفرنسي للاحصاءات والدراسات الى أن الضجيج يعتبر المسبب الأول لانزعاج سكان العاصمة الفرنسية (بنسبة 54 في المئة من الذين شملتهم الاستطلاعات). وكشفت مؤسسة زايبسوسس لاستطلاع الرأي أن من أولويات 68 في المئة من الباريسيين تزويد مساكنهم بعازل جيد للصوت. ويمنع ازعاج الجيران نهاراً وليلاً بموجب مرسوم صدر عام 1995، وتُفرض غرامة مالية تصل الى 40 يورو على المتسبب بضجيج متواصل أو متقطع، مع مصادرة مصدر الازعاج.
وفي الهند، اتخذت المحكمة العليا قراراً عام 2005 بمنع إطلاق أبواق السيارات والمفرقعات ليلاً. وفي جزيرة أوكيناوا جنوب اليابان صدر عام 2005 حكم قضائي في دعوى تلوث سمعي على الحكومة اليابانية، بدفع مبلغ 7,26 ملايين دولار كتعويضات للمقيمين بالقرب من قاعدة زكاديناس الجوية الأميركية في الجزيرة. فقد اعتبرت المحكمة أنهم يتعرضون لمستوى من الضوضاء يفوق 85 ديسيبل طبقاً للمعايير المعترف بها دولياً.
ووضعت معظم الدول قوانين لقياس الضجيج والحد منه. ففي سويسرا، على سبيل المثال، يطبّق قانون يعتبر مستوى المعيشة في منطقة ما ''متدنياً'' إذا تخطى متوسط الضجيج 50 ديسيبل عند الجدار الخارجي للمباني السكنية. ولتحديد مستوياته في المناطق المأهولة، تركّب أجهزة قياس في الأماكن التي يتم فيها تجاوز حدوده، كالطرق المزدحمة. وتقوم الحكومات، في معظم البلدان، ببناء الأسوار والحواجز والأحزمة الخضراء التي تحد من الضجيج على جوانب الطرق السريعة التي تعبر المناطق المأهولة.
ولكن على رغم زيادة الوعي البيئي وادراك الناس لأضرار الضجيج، لم يعطَ الاهتمام الكافي، خصوصاً في الدول النامية، إذ ازدادت مصادره بحدة ولا سيما من وسائط النقل، فضلاً عن أن القوانين التي تحد من الضجيج غير معروفة لدى الغالبية العظمى من الناس، ونادراً ما تطبّق.
الضجيج في سورية
نتيجة ازدياد النمو السكاني وما تبعه من ازدياد في وسائط النقل والازدحام المروري، تفشّت ظاهرة الضجيج في معظم المدن والتجمعات السكانية السورية، وأصبحت معظم المناطق الحضرية ذات مستويات ضجيج مرتفعة. وقد أشارت الدراسات الأخيرة الى أن متوسط مستويات الضجيج في معظم مناطق دمشق القديمة تراوحت ما بين 70 و80 ديسيبل. وكذلك في مدينة حلب حتى في المناطق السكنية حيث يجب ألا تزيد مستويات الضجيج نهاراً عن 55 ديسيبل، وتؤدي الاختلافات الكبيرة في مستويات الضجيج بين لحظة وأخرى الى زيادة خطورته، إذ تصل الفوارق أحياناً الى 30 ديسيبل. وهذا ناجم عن الأصوات المفاجئة الناتجة من أبواق السيارات ومرور الدراجات النارية والحافلات والشاحنات وغيرها.
تتوقف مستويات الضجيج الصادرة عن وسائط النقل على جملة اعتبارات، منها جودة الطرقات وانسياب حركة المرور فيها. ونظراً لارتفاع مستويات الضجيج في المناطق التجارية ـ السكنية والمناطق السياحية، والأخطار التي يمكن أن تنتج منها، لا بد من اتخاذ اجراءات لخفض هذه المستويات، ولعل أهمها الآتية:
1.التوعية الشاملة لتبيان الأضرار التي تنتج من ارتفاع مستويات الضجيج عن الحدود المسموح بها، سواء على الأشخاص الذين يتسببون في إحداث الضجيج أو على عموم الناس، ولا سيما الأطفال وكبار السن.
2. تنظيم حركة المرور بحيث تراعي عدم ازدحام الشوارع بالسيارات وخصوصاً في المناطق السكنية، وحظر عبور السيارات في عدد من المناطق المزدحمة وخصوصاً السكنية والسياحية والأثرية، وتطبيق نظام الموجة الخضراء (Green Wave) حيث السير بسرعة محددة في الطرق السريعة والرئيسية يمكّن السائق من تجنب الاشارة الحمراء إذ يتزامن فتح الاشارة الخضراء مع مروره.
3. تطبيق القانون السوري الذي يمنع استعمال الأبواق من الرابعة عصراً حتى السابعة صباحاً، ويفضّل حظر استعمال الأبواق كلياً داخل المدن، أو على الأقل في بعض مناطقها.
4. عدم السماح للحافلات الكبيرة والشاحنات المتوسطة والكبيرة الحمولة من المرور داخل المدينة، ومعالجة موضوع الشاحنات والسيارات ذات المحركات المعطوبة والمصدرة للأصوات العالية، وذلك لأن وسائط النقل هذه من أسباب ارتفاع مستويات الضجيج ولا سيما القصوى.