تفاقم ألم أحمد، وهو في ربيعه السادس، ليصحو ذات صباح مثقل الخطوات وعاجزاً عن السير. وبعد معرفة السبب، كشف حجم خسارته عن خطر داهم يهدد رفقاء طفولته، ليعفي كثيرين من هموم الإعاقة وإرهاق الألم.
بينَّت دراسات أجرتها الهيئة العامة لمياه الريف في اليمن أن التعميق في حفر الآبار إلى 200 متر يتسبب أحياناً في ارتفاع نسبة الفلورايد عن الحد الآمن الذي حددته منظمة الصحة العالمية بـ 1,5 مليغرام لكل ليتر من الماء، ليتراوح بين 3 و6,5 مليغرام في الليتر. فبات يهدد الأطفال بأمراض تلين العظام والكساح وتبقع الأسنان ومن ثم تساقطها وانتفاخ البطن، فيما يصاب كبار السن بهشاشة العظام والتسمم الفلوري للعمود الفقري. وتمتد خطورة هذا التلوث إلى خمس محافظات يمنية، تتصدرها صنعاء وتليها إب وتعز والضالع وذمار.
مرض جماعي
أعيا المرض أهالي قرية الخوعة في مديرية جحانة بمحافظة صنعاء. فقصدت مجموعة منهم مستشفى الثورة العام، حيث أثار تشاركهم في المرض قلقاً طبياً، مما دفع وزارة الصحة وإدارة المستشفى إلى تكليف فريق بحث طبي استكشاف السبب والبحث عن بدايات الألم الجماعي.
عاين فريق البحث عينة من 47 طفلاً وطفلة في الفئة العمرية بين عامين و14 عاماً، من أصل 149 طفلاً تحتضنهم قرية الخوعة الريفية التي تصطدم بزحف التحضر. ورصد الأطباء شبه إجماع طفولي على ألم في القدمين يتزايد مع الأيام، تليه صعوبة في المشي، ليفقد بعض الأطفال أخيراً القدرة على السير، وينتهي البعض إلى المشي بطريقة غير طبيعية تدعى ''مشي البط''.
أظهرت نتائج الفحص الطبي أن الأطفال يعانون من تقوس في القدمين وانتفاخ في البطن من دون تضخم في الأعضاء. وفي بعض الحالات حبيبات في الصدر واتساع في مفصل الرسغ والقدم. ولم يكن أي منهم يعاني من سوء تغذية متوسط أو وخيم، أو تشوه خلقي أو مرض مزمن، وكان معظمهم يسيرون بخطوات واثقة الى المدرسة. وفجأة حدثت المشكلة، مما يدل على تغير مفاجئ.
رصد الفريق البحثي تأخر المشي لدى 21 في المئة من أطفال القرية، فيما تأخر ظهور الأسنان لدى 37 في المئة من عينة البحث. وأفاد أن التدخل الطبي في هذه الحالات محدود، ويتمثل في علاج مساند من خلال تكثيف إعطاء الفيتامين ''د'' والكالسيوم لجميع أطفال القرية. وأوصى الأهالي بعدم تعريض الأطفال في الفئة العمرية بين عامين و13 عاماً للمشي أو الوقوف الطويل كي لا تتفاقم لديهم مشكلة الكساح.
بحث مقلق
ثمة قرى كثيرة في المحافظات الخمس تشارك قرية الخوعة في مصابها، نتيجة ظروف الشرب غير الآمنة بسبب التعمق في حفر الآبار لزراعة القات. ويشرب أهالي الخوعة من بئر تم حفرها قبل ثلاثة أعوام، كما يستخدمونها للأغراض المنزلية، تماماً كما في بقية القرى حيث تعتبر الآبار المصدر الرئيسي لمياه الشرب.
ومع تثاقل خطوات الأطفال أو توقفها في هذه القرى، تتسارع خطوات البحث عن معالجات وحلول. وقد اعتبرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن خطورة هذه المشكلة تتجاوز نقص منسوب المياه في حوض صنعاء، الذي يسجلها أول عاصمة في العالم مهددة بالجفاف. وتبلغ نسبة الحاصلين على مياه نقية في اليمن 32 في المئة، ونصيب ما يحصل عليه الفرد من المياه 150 متراً مكعباً في السنة، في مقابل 1200 متر مكعب لنظيره في دول المنطقة. ويصل معدل الفقر المائي حالياً الى 2000 متر مكعب للفرد، ما تعتبره المنظمة عالياً جداً مقابل فقر مائي عالمي يصل إلى 1000 متر مكعب للفرد.
واعتبر مدير عام مياه الريف المهندس عبدالغني الغزالي أن المشكلة خطيرة جداً، لأن الفلورايد ينتشر في 30 إلى 35 في المئة من آبار محافظة صنعاء، إضافة إلى عامل التكوين الجيولوجي البركاني للعصر الثلاثي والرباعي في الطبقات الحاملة للمياه.
وأفاد مدير عام الدراسات والإشراف والمتابعة في مياه الريف يحيى الشامي أن معالجات المياه المفلورة مكلف جداً. وهو يتم بطرق مختلفة، منها المعالجة الطبيعية من خلال تجميع مياه الأمطار والاستفادة منها، أو خلط مياه الآبار المحتوية على الفلورايد بالمياه السطحية الخالية منه، أو شراء قطّارات منزلية خاصة بمعالجة ارتفاع نسبة الفلورايد. وأضاف أن المعالجة الأكثر كلفة هي انشاء محطة معالجة تعمل بطريقة التناضح العكسي. وأشار إلى بداية أمل من خلال إنشاء محطات تحلية في محافظات صنعاء وإب وعمران، إضافة إلى حملات توعية للسكان بأهمية تحلية المياه والبحث عن مصادر بديلة أكثر أمناً.
ولفت خبير المياه والإصحاح البيئي في منظمة الصحة العالمية المهندس عبد الملك مفضل الى جهد محدود للمنظمة في هذا المجال، يقتصر على الدعم الفني من خلال إيفاد عدد من الخبراء إلى الهند لاكتساب خبرة مستحدثة في تكنولوجيا رخيصة لتحلية المياه تستخدم في 22 دولة.
خطوات مثقلة
تطول نظرات أحمد الشاردة إلى أقرانه وهم يسابقون العمر بخطواتهم، في ظل معالجة بطيئة ومكلفة توصف أحياناً بأنها تقترب من المستحيلة، لمشكلة كامنة ومهددة. وهذا ما حفز وكالة ''سبأ'' اليمنية للأخبار الى استبيان مدى التزام عينة عشوائية من السكان في اختيار مصادر مياه نقية أو مياه بديلة في حال الشك بسلامة المياه المتوفرة.
أشار الاستبيان الى أن 76 في المئة من العينة يحرصون على شرب مياه نقية، فيما يشرب 18 في المئة مياهاً نقية أحياناً، ولا يكترث 6 في المئة لمصدر المياه ويشربونها من دون أي ارتياب.
وشرب 48 في المئة المياه أكثر من عشر مرات مياهاً يشكون في نقاوتها، و40 في المئة شربوها أكثر من خمسين مرة وهم في حالة شك، وردع سوء الظن 12 في المئة عن شرب مياه مشكوك فيها ولو لمرة واحدة، ضمن عينة البحث التي ضمت الفئة العمرية من 20 الى 60 عاماً من كلا الجنسين.
وبينت نتائج الاستبيان أن 77 في المئة من العينة تحرص على توفير مياه نقية في حال الشك بمصدر المياه المتاحة، فيما يضطر 18 في المئة إلى إيجاد مصادر بديلة احياناً، ولا يتحمل 5 في المئة ايجاد مياه نقية بديلة ويشربون مياهاً ملوثة مكتفين بمصادفة القدر لحفظ صحتهم مع ابنائهم.
النتيجة الأكثر تفاؤلاً في مسار الاستبيان أن 55 من أفراد العينة أكدوا أن أبناءهم لا يعانون من أمراض الكساح وآلام المفاصل وانتفاخ البطن، فيما يعاني أبناء 14 في المئة من آلام المفاصل، وأبناء 21 في المئة من تبقع الأسنان وأبناء 10 في المئة من انتفاخ البطن.
والأكثر غرابة أن 9 في المئة من أفراد العينة لا يعتقدون أن المياه الملوثة تسبب أمراضاً خطيرة، فيما جزم 91 في المئة أن المياه ملوثة. وتبين أن 36 في المئة لم يسمعوا بمشكلة ارتفاع نسبة الفلورايد في مياه الشرب ولا يعلمون عنها شيئاً، في مقابل 64 في المئة سمعوا بها.
أحمد لم يعد يمشي، وليس مستبعداً أن ينضم إلى عجزه أطفال آخرون ليفقدوا معه متعة الطفولة.