عمّال في أحد بلدان المنطقة، غير الموصوفة بالفقر، أضربوا الشهر الماضي احتجاجاً على شروط السكن السيئة التي توفّرها لهم شركة مقاولات كبرى يبنون لها جزيرة اصطناعية. فكل ستة منهم ينامون في غرفة لا تتجاوز مساحتها 16 متراً مربعاً، وتفتقر الى أبسط الشروط الصحية. الجواب جاء سريعاً من الادارة الرسمية المعنية، بأن القانون يسمح بتخصيص مترين مربعين فقط لكل عامل، ما يعني أنه يمكن وضع ثمانية عمال بدل ستة في الغرفة الواحدة. وبحساب بسيط، فمجرّد ترتيب ثمانية أسرة في صفوف متراصة لا يترك أي فراغ لممرّ واحد حتى.
عقب نشر هذه المعلومات، كنا ننتظر أن يبادر المسؤولون إلى إجراءات فورية تفرض الحد الأدنى من الشروط الصحية، التي قد لا تصل الى تخصيص عشرة أمتار مربعة للشخص كما في الدول الغربية، ولكن لا تقل بالتأكيد عن ستة أمتار. غير أن الردّ جاء من هيئة محلية طرحت مشروعاً لانشاء ''مركز دولي''، هدفه وضع مقاييس ومواصفات للأبنية الصحية الخضراء، يخدم كل دول العالم! وإلى أن يتم انشاء هذا المركز، في عشر سنين أو عشرين، هذا إذا رأى النور وطُبّقت مواصفاته، فلا بأس بأن يستمر تكديس العمال في غرف نوم مكتظة، حتى ينتهي ''تبليط'' جميع البحار بالجزر الاصطناعية!
وما دمنا في حديث الجزر والبحار، فقد انطلقت مؤخراً حملة ترويجية واسعة لانشاء منظمة مختصة بالتطوير ''المستدام'' لسواحل العالم، على أسس تحفظ سلامة البحار والشواطئ وخصائص المجتمعات المحلية. هذه مبادرة طموحة وذات أهداف نبيلة، لا بد من دعمها. لكن اللافت أن من يقف وراءها مجموعة من المطوِّرين العقاريين، الذين بنوا بعضاً من المشاريع الأكثر إثارةً للجدل من حيث سلامة الشروط البيئية. وما زالوا يرفضون نشر نتائج دراسات الأثر البيئي لمشاريعهم، على اعتبار أنها من الأسرار التجارية والوطنية. كما لم يعلنوا أي التزام جدي بتحسين الشروط البيئية لمشاريعهم، قبل العمل على حل مشاكل ''الكوكب الأزرق''.
وفي إطار الحديث عن آليات التنمية النظيفة والاقتصاد الأقل انتاجاً للكربون، قامت مبادرات رائدة في بعض دول المنطقة العربية، تتخذ أيضاً أبعاداً دولية وتضع أهدافاً كبرى للمساهمة في ''انقاذ الأرض''، عن طريق تطوير تكنولوجيات مجدية في انتاج الطاقة واستخدامها. هذه أيضاً أهداف نبيلة، إذ لا بد من أن نكون جزءاً من المساعي الدولية. لكن إلى أن تؤتي هذه المبادرات ثمارها، ما زالت مجتمعاتنا بين الأكثر تبذيراً للطاقة، اذ تعتمد أنماط إنتاج واستهلاك قد تكون الأقل كفاءة في العالم.
خلال الاجتماع السنوي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في موناكو الشهر الماضي، قدّمت مجموعة من المستثمرين الشباب عروضاً لمشاريع محلية أطلقوها في بلدانهم. برباره جايمس من نيجيريا، الرئيسة التنفيذية لشركة ''هنشو'' المالية، تحدثت عن انشائها صندوقاً يستثمر في تكنولوجيات الطاقة النظيفة في إفريقيا، بحجم أعمال يبلغ أربعمئة مليون دولار، تصل خدماته الى 800 شركة. آندرو إتواير عرض أعمال الشركة التي أسسها في غانا، لتحسين كفاءة استخدام الطاقة في المصانع والمكاتب والمنازل. هاريش هاند، رئيس شركة سيلكو للطاقة الشمسية في الهند، شرح كيف تمكنت شركته من تأمين الطاقة النظيفة لمئات آلاف البشر في المناطق النائية. ولم تقتصر الأمثلة الناجحة على القطاع الخاص، اذ قدم حاكم بانكوك، عاصمة تايلاند، عرضاً لبرنامج باشرت مدينته تنفيذه بنجاح لتخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون فيها بمعدل 15 في المئة مع حلول سنة 2012. هذه نماذج لمبادرات رائدة، تعمل مع الناس وتستلهم المستقبل، بينما تساهم في حل مشاكل الحاضر.
المبادرات الكبرى التي تحدثنا عنها في المنطقة العربية مطلوبة وتستحق الدعم ونتمنى لها النجاح. لكن الخوف أن يتحول الكلام عن مشاريع كبرى للمستقبل إلى غطاء لتجنلاب وضع حلول عاجلة لمعضلات الحاضر، التي نعيش معها كل يوم. ما لم نهتم فوراً بمعالجة مشاكلنا البيئية العاجلة، فسوف تبقى المشاريع الكبرى هروباً الى الأمام.
|